مع حابى ضحى عاصى لم يخطر ببالي وأنا في طفولتي ومراهقتي أن صفحة مياه النيل الهادئة التي تتحرك بثبات واستقرار تحت شباك غرفة نومي ستكون في يوما ما سببا لأزمة كبرى، النيل هو سر الحياة الأمطار قليلة ولكن النيل ضمن لنا البقاء والاستقرار. كان أكبر الأخطار التي سمعت عنها في طفولتي ورأيت بعض مشاهد تمثيلية لها هو خطر الفيضان الذى يطيح بالقرى والبيوت وفي الميثولوجيا الفرعونية بكت ايزيس مقتل زوجها فكانت دموعها التي اتحدت مع مياه النيل الهادئة المستقرة فيضانا ولكن حتى هذا الخطر لم أره فقد بني السد العالي قبل ميلادي بسنوات طويلة، كنت اسمع أيضا الخوف من الجفاف ولكن ايضا هذا الخوف لم استشعره فقد ضمنت السدود مخزون مياه كاف. في زياراتي القصيرة للقرية كنت أسمع مصطلحات بقيت عندي في الذاكرة رمزا لأشياء لا ترتبط بمعناها الحقيقي. مثل "النيل وفى" كانوا يقصدون أن المياه كثيرة وغزيرة تفى باحتياجات الأرض اما أنا فرسخت في ذهني هذا الميثاق الحميمي بالعهد والوفاء بينا وبين النهر الذى أدرك قيمته اجدادنا فجعلوا له إلها "حابى" إله النيل عند المصريين القدماء نقول إن الكلمة الانجليزية هابى والتى تعني السعادة مأخوذة من اسم إله النيل المصري ما نقوله لم يثبت صحته وغير مؤكد ولكن المؤكد أننا معتقدون أن النيل هو مصدر السعادة وأن العالم سيقيس سعادته بمقايسنا نحن، رسم المصري القديم الإله حابى رجل له ثديان وبطن ممتلئة رجل وامرأة, معا رمزا للخصوبة في اتحاد "الماء "الرجل و"الأرض" المرأة, وعندما جاء اليونانيون رسموا حابى على هيئة رجل قوي شعره من سنابل القمح وحوله 16 طفلا أولاده بعدد الاذرع التى يجب أن تكتمل حتى يوفى النيل. قال هيردوت مصر هبة النيل. منذ عدة ايام كنت أتابع بعض البرامج التليفزيونية عن ملف سد النهضة وعلى الشريط الاخباري مكتوب:- اثيوبيا هبة النيل.. تحركت الطفلة بداخلي وكأن بعضهم انتزع منى لقب التدليل الخاص بي وكأن النيل خاص بنا وحدنا ولكن عقلى الواعي اسكت الطفلة قائلا: وأيضا اثيوبيا هبة النيل والسودان هبة النيل تسع دول أخرى تقع في حوض النيل، حقا النيل هو الحياة لهم كما لنا، وتسارع في ذهني سؤال طفولي، ما الذى تغير الآن حتى تقرر اثيوبيا أن تبنى سدا؟ ، منذ آلاف السنين والمياه تجري وتجري وكلنا نعيش، حاولت قراءة المشهد باستثناء مصر، اثيوبيا ( الحبشة ) هي الدولة الثانية ذات الوجود التاريخي المستمر والمتواصل ذات الحدود و الامتداد الحضاري: وترتيبها افريقيا الثانية من حيث تعداد السكان، وتجاوز التعداد السكاني 120 مليون نسمة ولكن مستوى دخل الفرد الاثيوبي متدني جدا، بالرغم من ان اثيوبيا من اسرع دول افريقيا نموا فى السنوات العشر الاخيرة ، وترى أنها مؤهلة لتكون دولة قوية فى افريقيا ولكنها من حيث الناتج المحلي تأتي متأخرة بعد عدة دول افريقية و80٪ من سكان اثيوبيا لا تصلهم شبكات كهرباء، ثانيا اثيوبيا دولة حبيسة بدون منافذ على البحر، وتتحكم جيبوتى وكينيا في طرق النفاذ إلى البحر، وحتى هاتان الدولتان تمددت القوى الدولية فيهما مثل الصين وفرنسا و الولاياتالمتحدة وتركيا للتحكم في المنافذ البحرية. وبالرغم من التقارب السياسي المصري الاثيوبي أثناء حكم عبد الناصر والامبراطور هيلاسيلاسي. فاثيوبيا ومصر والسودان وكينيا هي الدول الأربع المؤسسة لمنظمة الوحدة الافريقية وأديس بابا العاصمة الاثيوبية هي مقر المنظمة التي صارت الاتحاد الافريقي، إلا أن كل محاولات منع انفصال الكنيسة الاثيوبية عن الكنيسة القبطية الارثوذكسية لم تفلح ، وانفصلت الكنيسة بدعم سياسي من الامبراطور ولكن العلاقات السياسية بين مصر واثيويبا تأرجحت كثيرا . اثيوبيا ظلت قريبة من الغرب في حين اقترب النظام الناصري إلى الكتلة الشرقية وعلى العكس تزامن الحكم الشيوعي سنة 1974 في اثيوبيا مع تغيير النظام السياسي المصري للجهة الراعية المضادة، وساءت العلاقات المصرية الاثيوبية على خلفية معارضة السادات للتوجهات الاثيوبية الجديدة ومساندة أعداء النظام الشيوعي في اثيوبيا، ودعم الحركات الانفصالية في ارتيريا و النيجري، أو في الدفع بالنظام الصومالي في حرب مفتوحة لتعديل الحدود، ومع سقوط النظام الشيوعى في اثيوبيا فى91 وتوقع تحسن العلاقات مع النظام الجديد الاثيوبي لكن محاولة اغتيال الرئيس مبارك في اديس ابابا سنة 1995 جعلت االعلاقات المصرية الاثيوبية باردة ومجمدة لوقوع اثيوبيا بين مطرقة الاخوان المسلمين فى السودان وسندان النظام المصري الذى يطالب بتسليم عناصر إرهابية. وبينما كانت العلاقات المصرية الاثيوبية في هذا الجمود تبنت اسرائيل استراتيجية ثابتة منذ عام 64 بتطويق دول المواجهة العربية بطوق من حلفاء اسرائيل، و تهديد الدول العربية الرئيسية في مواجهتها، وكان ذلك مثلا بتشجيع التحرشات التركية بسوريا، ودعم المواجهة الايرانية مع العراق ( أيام الشاه) ودعم الحركات الانفصالية الكردية، وعلاقات خاصة بين اسرائيل واثيوبيا على طول الخط وفي فترة الجفاف والمجاعات التي ضربت الجارة الاثيوبية طوال الثمانينيات قدمت اسرائيل معونات عاجلة بالاضافة إلى الدعم التكنولوجي في الزراعة والتسليح والتجارة لاحقا.. النيل شريان الحياة لمصر واثيوبيا والسودان وغيرهم . هذا الرابط الجغرافي الابدي بيننا والذي كان من المفترض أن يكون داعما لعلاقة قوية الآن هو سبب النزاع أم أن سبب النزاع هو حسابات القوى الدولية والانحيازات السياسية؟ وهل سنستبدل علاقة الجوار بالحرب أم نستطيع بناء علاقات تعاون استراتيجية بعيدة المدى تليق بأقدم وحدتين سياسيتين في إفريقيا؟. وبعيدا عن حسابات القوى اخذت الطفله التى بداخلى تتساءل هل سيظل النيل يوفى كما وعدنا حابى؟.