تنشيطاً للذاكرة، نقف معاً عند بعض الأحداث التاريخية، نسلط عليها الضوء، ونتذكرها معاً، عسى أن تحمل معها خبرة لنا، وفائدة لحاضرنا ومستقبلنا، أو حافزاً لإعادة قراءة التاريخ، وفي كل الأحوال لعلها أن تكون حافزاً لتنشيط الذاكرة الوطنية…نتحدث في هذا المقال، عن حدثين كبيرين حدثا في شهر سبتمبر، وبالتحديد في يوم 9 سبتمبر، هما: الثورة العرابية 1881 و والإصلاح الزراعي 1952. 9 سبتمبر 1881 : الثورة العرابية: في ذلك اليوم خرج الزعيم أحمد عرابي راكباً حصانه، لمواجهة الخديوي توفيق في ميدان عابدين، وكان اندلاع الثورة في مثل هذا الشهر في 9 سبتمبر 1881 بقيادة الجيش ومباركة الشعب، ومن الأسباب التي أدت إندلاع ثورة عرابي تردى الأحوال الاقتصادية، وسيطرة رأس المال الأجنبي على اقتصاد مصر، وتزايد التدخل الأجنبي، كما جاءت تعبيراً عن تنامي نضوج الوعى الوطنى، والمشاعر الوطنية داخل الجيش، وكانت أهم مطالب الثورة زيادة عدد الجيش إلى 18 ألف جندى، وتشكيل مجلس شورى النواب على النسق الأوروبي، و عزل وزارة رياض باشا. وحين واجه عرابى الخديو توفيق بهذه المطالب قال له الخديو: كل هذه الطلبات لا حق لكم فيها، وأنا ورثت ملك هذه البلاد عن آبائي وأجدادي، وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا، فرد عليه عرابى بقولته المشهورة: لقد خلقنا الله أحراراً، ولم يخلقنا تراثا أو عقاراً، فوالله لن نورث ولن نستعبد بعد اليوم، ونزل الخديو على مطالب الأمة وعزل رياض باشا من رئاسة الوزارة، وعهد إلى شريف باشا بتشكيل الوزارة، وكان مشهوداً له بالوطنية والنزاهة فألف وزارته في 14 سبتمبر 1881، وكان الضابط والشاعر الكبير محمود سامي البارودي وزيراً للحربية، وسعى لوضع دستور للبلاد، ثم عصف تدخل إنجلترا وفرنسا في شئون مصر بثمار الثورة وساند الاستعمار الخديو وتأزمت الأمور، وتقدم شريف باشا باستقالته في 2 فبراير 1882، وتشكلت حكومة جديدة برئاسة محمود سامي البارودي، وشغل عرابي فيها منصب وزير الحربية، وقوبلت بالارتياح والقبول لأنها كانت تحقيقًا لرغبة الأمة، وكانت معقد الآمال فأعلنت الدستور، وصدر مرسوم الخديوي به في 7 فبراير 1882، وسميت باسم وزارة الثورة، لكن مياها جديدة عكرة جرت في النهر، وتصاعدت الأحداث وحدثت المواجهات بين عرابى والإنجليز، واستقوى توفيق على عرابى بالإنجليز، وانتهى الأمر بهزيمة عرابي في التل الكبير، ثم نفيه هو وصحبه في 3 ديسمبر 1882 إلى جزيرة سرنديب (سيلان) أو سريلانكا حالياً، كما انتهى الأمر بالاحتلال البريطانى لمصر الذي دام 74 عاماً. واعتبر بعض باحثي التاريخ والثورات الوطنية أن ثورة عرابي هي الحلقة الأولى لسلسلة من الثورات الوطنية، حيث ثورة 1919 هي حلقتها الثانية، وثورة 23 يوليو 1952 حلقتها الثالثة، بينما يضيف آخرون كل من ثورتي القاهرة الأولى والثانية ضد الحملة الفرنسية على مصر والشام (1798 – 1801) وثورتي الطلبة والعمال في(1935 و 1946) ضد تحالف السراي والمحتل الانجليزي، وتشكيل اللجنة الوطنية للطلبة والعمال، إلى هذه الحلقات من ثورات المصريين الشعبية والوطنية، وكتبت دراسات كثيرة عن الثورة العرابية من أهمها: كتاب: الأساس الاجتماعي للثورة العرابية للدكتور رفعت السعيد، وكتاب: الثورة العرابية للمؤرخ الأستاذ صلاح عيسى. 9 سبتمبر 1952 : الإصلاح الزراعي: وفي نفس اليوم عام 1952 صدر قانون الإصلاح الزراعي الأول بعد ثورة 23 يوليو بشهر ونصف، كانت قضية الأرض والفلاح ذات أولوية عند الضباط الأحرار، بهدف تغيير أوضاع الريف المصري، وتغيير الخلل الكبير في ملكية وحيازة الأرض الزراعية منذ اللائحة السعيدية (التي صدرت في 1858 في عصر سعيد باشا) التي سمحت بتوزيع الأرض الزراعية وتداولها والتصرف فيها، وكانت السلطة الجديدة بعد حكم محمد علي قد بدأت في تغيير وضع ملكية الأرض الزراعية (لأسباب سياسية واقتصادية) من نظام الملكية المطلقة للوالي، إلى نظام توزيع الملكيات على الأجانب والأقارب وأفراد الحاشية، وأيضاً بعض العمد والمشايخ وكبار الموظفين والعائلات، الأمر الذي نشأت عنه طبقة كبار ملاك الأرض في مصر، وظاهرة كبار العائلات من ملاك الأبعديات والجفالك والعزب، وكانت قضية ومشاكل الأرض والفلاح في مصر قبل ثورة يوليو 1952 القضية الكبرى التي تتوازى في الحوارات والنضالات السياسية والوطنية والاجتماعية والبرلمانية مع قضيتي الجلاء والدستور، وكانت الاقتراحات الخاصة بالإصلاح الزراعي وتحديد الملكية، وإعادة توزيع الثروة الزراعية مطروحة بقوة على جدول أعمال الحركة الوطنية المصرية، فقد كان الخلل في توزيع حيازة وملكية الأرض الزراعية في مصر، بين أقلية قليلة من كبار الحائزين والملاك وأغلبية غالبة من صغار الحائزين والمعدمين من الفلاحين وعمال الزراعة وعمال التراحيل، كان حاجزاً اقتصادياً كبيراً أمام إمكانية التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في مصر ، ولذلك كان على رأس الأهداف الستة لضباط ثورة يوليو، وبعد شعار القضاء على الاستعمار وأعوانه، شعار القضاء على الإقطاع، ثم القضاء على الاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم، كان قانون الإصلاح الزراعي في تطوره معتدلاً فيما يخص تحديد سقف الملكية، فقد بدأ بمائة فدان للفرد ومائتين للأسرة، وترك مهلة للتصرف بالبيع لما زاد عن ذلك، ولم يأخذ الملكيات الزائدة تأميماً أو مصادرة دون مقابل، كما حدث في بلاد أخرى، بل طرح تعويضاً للفدان يساوي عشرة أمثال القيمة الإيجارية المحددة بسبعة أمثال الضريبة في ذلك الوقت، أي تعويض الفدان بسبعين مثل الضريبة العقارية، ولم تكن الأهمية الحقيقية للإصلاح الزراعي المصري في مجرد تحديد سقف أعلى للملكية، بل في المنظومة التي سارت عليها السياسة الزراعية لتطوير العملية الإنتاجية الزراعية، وتطوير القرية المصرية، وتطوير حقوق المنتجين من فلاحين وعمال زراعة، عبر تأكيد التعاون الزراعي، وإقامة الجمعيات التعاونية الزراعية، والتجميع الزراعي، والدورة الزراعية الثلاثية، وتوفير التمويل التعاوني عبر بنك التسليف، وتوفير الأسمدة والمبيدات والتقاوي عبر الجمعية الزراعية، وشراء المحاصيل من الفلاحين عبر نظام التسويق التعاوني، وتنظيم العلاقة الإيجارية النقدية في الأراضي الزراعية، تلك المنظومة من السياسات الزراعية التي انتهت وتغيرت مع سياسات الانفتاح الاقتصادي وتحرير الزراعة بعد ذلك وحتى الآن، وقد اهتم الكتاب والمؤرخين ورواد الحركة الوطنية بقضية الأرض والفلاح والمسألة الزراعية والإصلاح الزراعي، ومن بين هذه الكتابات، كتاب: الأرض والفلاح لابراهيم عامر، وكتابات وكتب الدكتور عاصم الدسوقي، و الدكتور علي بركات، والدكتور فتحي عبد الفتاح، عن القرية المصرية والقرية المعاصرة، وتاريخ الملكية الزراعية، ونشأة كبار ملاك الأراضي الزراعية في مصر. *مع تحياتي مهندس محمد فرج سبتمبر 2019