نبيل فرج لم يتعلق الأدباء فى مصر والوطن العربى، بأحد من جيل الرواد مثلما تعلقوا بطه حسين. وكان من أبرز مظاهر هذا التعلق التقرب منه، وتبادل الرسائل معه، والكتابة عنه وعن مؤلفاته. وليس هناك من يفوق طه حسين فى هذه المنزلة، ولا فى كم المقالات والكتب وفصول الكتب التى وضعت عنه. ومن أجمل إهداءات الكتب إلى طه حسين، التى كتبت بحروف المطبعة لا بخطوط المؤلفين، ما كتبه محمد مندور فى كتابه "فى الميزان الجديد" (1944)، ولويس عوض فى كتابه "فى الأدب الإنجليزى الحديث" (1950). فى هذين الإهدائين تتجلى بأوضح بيان القيمة التى يمثلها طه حسين فى فكر اثنين من تلاميذه، قدر لهما أن يصبحا ألمع ناقدين فى الثقافة المصرية. وتكشف الرسالة الأدبية المؤثرة التى وجهها عبدالرحمن الشرقاوى إلى طه حسين، ونشرت فى العدد الأخير من مجلة "الغد" (أغسطس، سبتمبر 1953) عن هذه المنزلة الفذة التى بلغها طه حسين فى نفوس المثقفين، خاصة الذين لم يتردوا فى هاوية التقليد أو الشكلانية. وتبين هذه الرسالة إلى أى مدى كانت الثقة فى حسن بلاء طه حسين فى المعارك التى خاضها، الاجتماعية والثقافية والسياسية، طلبا للحقيقة التى يعرف كيف ينتزعها بوعيه وتجاربه وحسه المرهف من وسط الضلالات والأكاذيب المناهضة للعقلانية والديمقراطية. ويمكن إجمال صفات طه حسين، فى أنه باحث متمكن حر الرأي، يربط النصوص بالحياة والمجتمع، ويتمتع برؤية مدنية رحبة بعيدة الآفاق، تدرك أن لكل حدث أو فعل علة سابقة أدت إليها، وتعتبر التراث والآثار والتاريخ والثقافة أساس الإنتاج الحديث، عليه يتوقف مصير الوطن، وتتشكل حضارة العصر. ومن آرائه المعلنة أن الحكومات التى لا توفر لشعوبها الحياة الكريمة لا تستحق أن تطاع. ولا شك أن الثقافة الموسوعية العربية والأجنبية التى حصلها طه حسين، كانت من الأسباب الرئيسية لبلوغ هذه المكانة التى احتلها، وهذا الوعى الذى تمتع به، ولم تتمكن قوى الظلام التى ناصبته العداء من النيل أو الغض منه. وقد قابل طه حسين هذا كله بما يتطلبه من تدبر وحكمة، وذلك بمتابعة أعمال المبدعين المعاصرين من كل الأعمار، من الشباب إلى الشيوخ، الذين ينتمون بأدبهم إلى تيار النهضة والتجديد، بالكتابة عنها وتقديمها، كلما تيسر له الوقت والطاقة على الكتابة. وطه حسين هو الذى طلب من يوسف إدريس أن يكتب له مقدمة مجموعته القصصية الثانية "جمهورية فرحات" (1956)، بعد النجاح الكاسح الذى أصابه بمجموعته القصصية الأولى "أرخص ليالي"، يشهد به ما كتب عنه من نقد أكده طه حسين بما كتبه عنه فى هذه المقدمة القصيرة التى لم تتجاوز أربع صفحات من القطع المتوسط، نوه فيها بطبع الكاتب المرسل على سجيته، كأنه خلق ليكون قصاصا يتمتع بصفاء الذوق ونفاذ البصيرة. فى هذه المقدمة يؤكد طه حسين أيضا أن الأدباء الذين درسوا العلوم من أمثال يوسف إدريس يمنحون الأدب قوة لا يمنحها من تقتصر دراساتهم على الأدب. ولم يكن طه حسين يعزف عن تقديم النصح والتشجيع لمن يلقاه أو يحتاج إليه، بروح الشيخ والمعلم والأب الحانى الذى لا يفتر حماسه، ولا يخطئ فى إدراك المواهب الكامنة. ولا يذكر أنه أخطأ فى نصائحه مع أحد غير مرة واحدة، حين طلب من الكاتب المسرحى ألفريد فرج أن ينصرف عن المسرح، لأنه شخصية طيبة مسالمة، لا تقوى بطبيعتها على هذ الفن الصدامي، الذى كان يمر حينذاك بمرحلة من مراحل الضعف، ولم يخطر ببال طه حسين أن كاتبا مثل ألفريد فرج يستطيع أن يخلصه من هذا الضعف، ثم قدر لهذا الكاتب أن يصبح فى حياة طه حسين ألمع كتاب المسرح المصري، يحتفى به النقد والنقاد، تعرض أعماله فى كل الأقطار العربية بلا استثناء، وتترجم إلى اللغات الأجنبية، بل وأن يرشح فى 2005 لجائزة نوبل، وكان من المحتمل جدا أن يفوز بها بعد نجيب محفوظ، لأصالة مسرحه وعمقه الإنسانى المرتبط بالعصر، لولا رحيله قبل نهاية هذه السنة، وأوراق ترشيحه لهذه الجائزة العالمية تعد فى جامعة القاهرة. والحق أن هذا الكاتب ليس وحده الذى نقض حكم طه حسين، وإنما كان الجيل كله من شباب الأدباء يحاول أن يبتكر إبداعا جديدا يتخطى المفاهيم التقليدية السائدة، ويمنح الحياة الأدبية الحيوية والازدهار، متمنين أن يكون طه حسين فى صفهم، لا معاديا لهم. ولست أريد بهذا أن أشكك فى مدى معرفة طه حسين بالمسرح، فما كتبه عن توفيق الحكيم منذ "أهل الكهف" فى ثلاثينيات القرن الماضي، وعن شكسبير فى الستينيات، وغيرهما من أعلام هذا الفن، فضلا عما كتبه عن المسرح اليونانى والأوروبى الحديث، يدل على فهم عميق لهذا الفن، لا يقل بحال عن فهم كبار النقاد المتخصصين فيه. ورسالة الشرقاوى فى مجلة "الغد"، كانت تعبر فى هذا السياق عن الخشية من أن يعتزل طه حسين الحياة الثقافية كما أعلن أو كما أشيع فى كل الأوساط، ويقيم فى إحدى القرى النائية فى أقصى الصعيد، أو على قمة من قمم الجبال الأوروبية التى كان يلتجأ إليها فى رحلاته الصيفية، لا تشغله الثقافة الوطنية، ولا يذود عن عامة الناس.