بعد سجال من الأحداث التي عرضنا لها في المقال السابق أصدر الخليفة الرشيد أمراً لهذا لوالي اليمن الظالم بأن يرسل الامام الشافعي إلي بغداد فكبَّل هذا الوالي الشافعيَّ بالحديد و القيود بتهمة الخروج علي الدولة- بدعة قديمة حديثة- بتهمة الخروج علي الدولةو كُبِّل الشافعي بالأغلال و القيود و ذُهب به إلي خليفة المسلمين في بغداد التي كانت عاصمة الخلافة حينئذي. فلمّا دخل الشافعي علي هارون قال الشافعي: مهلاً يا أمير المؤمنين... فأنت الراعي و أنا المَرْعِيُّ و أنت القادر علي كل ما تريد منّي. ثم قال: يا أمير المؤمنين... ما تقول في رَجُلين أحدهما يراني أخاه و الآخر يراني عبداً له؟ أيهما أحبّ إليك؟ قال هارون: الذي يراك أخاه أحبُّ إليّ. فقال الشافعي: فهو أنت يا أمير المؤمنين .فإنكم وَلَد بني ¢العباس¢. و إننا إخوتكم من بني ¢عبد المطلب¢. و أنتم تروننا إخوةً لكم و همْ يروننا عبيداً لهم. فهل يُعقل أن أترك من يقول إني ابن عمه و أن أذهب إلي من يقول إني عبدى له؟. فاستوي هارون في مجلسه و عَلِم أنّه أمام عالمي فذّي. و أمام واعظي كبير. و نظر إليه هارون و سَعِد سعادةً غامرةً و قال له: عِظني. فوعظه الشافعي حتي أبكاه و اخضلَّت لحية هارون بالبكاء الشديد. و أمر له هارون بعطاءي كبيري جداً يقول الشافعي: و الله ما ملكت من قبلها ألف دينار. ملّكه هارون عطاءً كبيراً و عاش الشافعي في بغداد معززاً مكرماً يعلِّم الناس و ينشر العلم بينهم و لم يلبث فيها إلا قليلاً حتي عاد مرةً أخري إلي مكة- زادها الله تشريفاً و تكريماً- و كان الشافعي قد وصل إلي مرحلةي فريدةي من العلم فجلس الشافعي في مكة يُأصِّل الأصول و يُقعِّد القواعد و اتخذ له حلقةً في ¢مسجد الله الحرام¢ جمعَت إليه النّاس و لَفتت إليه الأنظار. و ازدحمت حلقة الشافعي ازدحاماً عجيباً. حتي إنّ ¢الإمام أحمد¢ "إمام أهل السنة" جاء حاجَّاً من بغداد- من بلاد العراق- إلي مكةالمكرمة- شرَّفها الله- فترك الإمام أحمد حلقة شيخ الشافعي "سفيان بن عيينة" و عكف الإمامُ أحمد في حلقة الشافعي. بل و لم يكتفِ الإمام بهذا» و إنّما ذهب إلي أخيه و صاحب رحلته- إلي إسحاق بن رهويهو قال أحمد: تعال يا إسحاق أُرِيكَ رجلاً بمكة ما رأت عيناك مثله. يقول إسحاق فأراني أحمد الشافعي. و أُعجب الإمام أحمد بذكاء عِلم الشافعي إعجاباً رهيباً. لأنه يسمع أصولاً و قواعدَ لأول مرةي يسمعها الإمام أحمد و غيره من أهل العلم فإنّ أول من أصَّل الأصول و قعَّد القواعد- هو الإمام الشافعي- رضي الله عنه و أرضاه- حتي قال أحمد قولته الخالدة الجميلة:¢ لولا الشافعي ما تعلَّمنا فقه الحديث¢. و قال أحمد:¢ كان الفقه مغلقاً علي أهله حتي فتحه الله بالشافعي¢ وقال أحمد:¢ ما من أحدي مسَّ محبرةً و لا قلماً بعد الشافعي إلاّ و له في عنقه مِنَّةً¢ . و قال أحمد:¢والله ما أعلم أحداً أعظم مِنَّة و بركةً علي الإسلام في زمن الشافعي من الشافعي.¢ و لمّا ذهب الشافعي لزيارة الإمام أحمد و هو مريض في فراش المرض» بعدما رحل الشافعي إلي العراق رحلته الثانية. مرض أحمد. و كان الشافعي يحبه كما كان أحمد يحب أستاذه الشافعي فلمّا ذهب الشافعي لزيارة أستاذه- يقول ¢صالح¢ ابن الإمام أحمد: و كان أبي عليلاً نائماً في فراشه. فلما دخل عليه الشافعي وجدتُ أبي قد وثب من فراشه و قام إلي الشافعي و قبّلهُ بين عينيه و أجلسه في مكانه و جلس أبي بين قَدَميه و جعل أبي يُسائِله ساعةً فلمّا قام الشافعيُّ ليركبَ دابَّته» قام أبي و أخذ بخِطَام الدابَّة يقودها للشافعي. فلمّا عَلِم ¢يحيي بن معين¢ جاء إلي الإمام أحمد و قال: يا أبا عبد الله... اضطرك الأمر إلي أن تجُرَّ خِطام بغلة الشافعي؟! إلي أن تمشي إلي جوار بغلة الشافعي؟! فقال أحمد: نعم يا أبا زكريا. و لو مشيتَ أنت من الجانب الآخر» لانتفعت كثيراً و الله.[ من أراد الفِقهَ فليلزم الشافعي] حتي جلس الإمام أحمد يوماً في مجلس عِلمه فقال لطلبته: ما ترونه هذا أو عامَّتُه- أيْ مِن علمي- فإنّما هو من الشافعي. ثم قال: و الله ما بِتُّ منذ أربعين سَنَةي إلا و أنا أدعوا الله للشافعي. حتي قال له ولده عبد الله يوماً: يا أبتي... من هذا الشافعي الذي أراك تكثر الدعاء له! فقال الإمام أحمد: يا بُنيّ إنّ الشافعي كان كالشمس للدنيا و كالعافية للناس فانظر... هل لهذين من خَلَفي أو لهما من عِوض؟! [ هذا قول الإمام أحمد و هو من هو في أستاذه الشافعي]. و قال فيه أيضاً[ إمام الجَرْح و التعديل] "يحيي بن سعيد القطان¢ قال: و الله ما رأيت أعقل و لا أفقه من الشافعي. و قال الإمام العَلَم أبو القاسم ¢عبيد الله بن سلام¢: و الله ما رأيت أفقه و لا أفهم من الشافعي. و لو استطردت مع أقوال الأئمة من أئمة الجرح و التعديل لطال بنا المقام. و كفانا أن نستمع إلي قول أحمد في الشافعي- رضي الله عنه- بل و عنهم جميعا. و هكذا اشتهر ذِكر الشافعي و علا فضله و سما قدره و حكم له شيوخه و علماءه و أساتذته بالفضل حتي كان الشافعي يجلس في حلقة شيخه ¢سفيان بن عيينة¢ فإذا ما جَدَّت مسألةى لسفيان» نظر سفيان إلي الشافعي و سأله عنها فأجاب الشافعي فسعد سفيان بإجابة الشافعي و قال قولته التي تكررت كثيراً: جزاك الله خيراً يا أبا عبد الله و الله لا يأتينا منك إلا ما هو خير. هذه شهادة من أستاذه الذي جلس الشافعي في حلقته ليجيب بدل أستاذه في يوم من الأيام. و بعد فترة قليلة رحل الشافعي في سنة مائتين- هذا بإيجاز شديد- رحل الشافعي بعد ذلك إلي ¢مصر¢. و هذه الفترة تعتبر من أهم الفترات العلمية و الفقهية في حياة الإمام الشافعي. حيث أعاد النظر في بعض كتبه¢ كالرسالة¢ و كتاب¢ الحجة¢ و ألَّف الشافعي في مصر كتابه الشهير المعروف بكتاب¢ الأم¢ و هو عبارة عن "كتاب ضخم يحوي كتباً كثيرة ألَّفها الإمام الشافعي في مصر". و لذا إذا قرأتم في كتابي من الكتب- قاله الشافعي في القديم- فاعلموا أنّ هذا ما قاله الشافعي في بلاد ¢العراق¢. و إذا قرأتم:- قاله الشافعي في الجديد- فاعلموا أنّ هذا ما قاله الشافعي في ¢مصر¢. وهكذا دَأبُ العالِم المخلص المُتجرِّد الذي يدور مع الدليل الصحيح و مع الحق حيث دار و لا عيب في ذلك علي الإطلاق علي الإمام الشافعي فقد يدلل بدليل ثم بعد ذلك يتضح له أنّ هذا الدليل- دليل ضعيفى فيُعرِض عنه و يأتي بدليلي صحيحي آخر. و هذا دأب العلماء المخلصين المتجردين لله جل و علا الذين يدورون مع الدليل الصحيح حيث دار و يدورون مع الحق دائماً و أبداً حيث دار. وللحديث بقية العدد القادم بمشيئة الله