إنَّ هذه اللغةَ تحتاجُ منَّا إلي صدق النيَّة والعمل الجادِّ إعدادًا لبرامج تعليمها. ثم للقيام بهذه البرامج علي خير وجْه يحسن تقديمها إلي الناشئة وإلي كلِّ مَن يَطلُبها.ثم إنَّ اللغة العربيَّة بالنسبة لِمَن يقوم بالترجمة لا بُدَّ له من أنْ يرتفع بها وأنْ يرقي مستواه فيها علي الأقلِّ إلي درجة اللغة التي ينقل منها أو إليها» ليحسن القيام بهذه الترجمة علي الوجه الأكمل. نريد أنْ نكونَ مع لغنتا العربيَّة علي موقف أحد رجلين تَصاحَبا في السفر» وجد أحدهما قطعة حجر تبرق تحث أشعَّة الشمس وتلمع. فالتقطها أحدُهما. وتفحَّصها فظنَّ أنها لا قيمةَ لها وألقي بها جاهلاً بحقيقتها. فالتقَطَها مُرافِقُه فنظر إليها فعرف أنها حجرى كريم. فإذا به يُخرِج منديله ويزيلُ الترابَ عنها. ولَمَّا وصل إلي بلدته أتي بلفائف من حريري ووضَعَها فيها ثم عرضها علي الزبائن في متجره. پأقول: نريد أنْ نكون علي موقف أحد هذين الرجلين تجاه لغتنا العربيَّة: فأمَّا الموقف الأوَّل موقفُ الإلقاء والإهمال. فإنَّه كان لجهل ذلك الرجل بقيمة الحجر. وما أظنُّ أنَّ أحدنا يرضي لنفسه أو لأولاده أنْ يكونوا علي هذا الموقف نعد أنْ بانَ أنَّ لغتنا العربيَّة تُؤدِّي من الوظائف ما يُؤدِّيه غيرها من اللغات. إضافةً إلي كونها مدخلنا لفَهْمِ كتاب الله وسنَّة رسوله وما دار حولهما من عُلومي. وما كُتِبَ في ظلِّ الحضارة الإسلاميَّة في شتَّي فروع المعرفة. بقي أنْ نكونَ علي موقع الرجل الثاني الذي أنزل الحجر الكريم منزلتَه اللائقة به لما عرف من قيمته وحقيقته. وهو ما هدف إليه هذا البحثُ من أنْ نشعُر بقيمة ما يمكن أنْ تُؤدِّيه هذه اللغة العربيَّة في حياتنا ممَّا لا يمكن الاستغناء عنه. وأختَتِم هذا البحث بأنْ أزيد من بقين قارئه بما للعربيَّة من ميزةي لا تدانيها لغة أخري في العالم بأسرِه. يمكن أنْ نلمسها في بعض المواضع التي أشارت إلي حَقائق علميَّة في القرآن الكريم والسنَّة المطهَّرة» ممَّا يطلعنا علي أنَّ لهذه اللغة قُدرةً علي تأدية وحمْل مستويات متراكبة من المعني تَحمِلها تراكيبها. ولعلَّ مثلاً واحدًا من ذلك من بين أمثلة كثيرة تطمئنُّ النفس إلي هذه الحقيقة. يتضمَّنه قول الله - تبارك وتعالي: "يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقي فِي ظُلُمَاتي ثَلاَثي" الزمر: :.61لقد كان فهم المفسِّرين للظلمات الثلاث حتي عام 1970 أنَّ الجنين تلفُّه ظلمةُ المشيمة. والمشيمة تلفُّها ظلمةُ الرَّحِم. والرَّحِمُ تلفُّه ظُلمة جُدران البطن. وقد توصَّل العلماء التجريبيُّون في محاولاتي لعِلاج بعض حالات العُقم وهم يُجْرُون تجارِبَ لمحاولة التلقيح والإخصاب خارِجَ الرحم إلي أنَّ البويضة الملقَّحة المخصبة إذا تعرَّضت لأدني نسبةي من الضوء في الفترة من يومي إلي ثلاثين يومًا فإنَّ الجنين يُصابُ بالتشوُّه التام. وقد توصَّلوا إلي ذلك بعدَ سلسلةي طويلة من التجارب ينمو فيها الجنين مُشوَّهًا مع أخْذ كلِّ الاحتياطات اللازمة والفُروض الممكنة. فلم يتوصَّلوا إلي النموِّ السليم للجنين إلا بعد إجْرائها في الظُّلمة التامَّة. ممَّا حدا بأحَد هؤلاء العلماء وهو يقرأ تلك الآية السابقة إلي أنْ يكتُب مقالاً علميًّا أثبَتَ فيه إشارة القُرآن الكريم إلي تلك الحقيقة التي تشيرُ إليها كلمة الظلمة في الآية السابقة. پإنَّ اللغة العربيَّة قادرةى علي أنْ تحمل تراكيبُها مستوياتي من للمعاني تُؤدِّيها كما اتَّضح ذلك من هذا المثال. ومثل ذلك يمكن أنْ يُقال عن حَقيقة بصمات الأنامل. وهي من نتائج الكشْف العِلمي الحديث. ولعلَّه قد أُشِيرَ إليها في القُرآن الكريم في مِثل قوله - تعالي: "بَلَي قَادِرِينَ عَلَي أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ" القيامة: 4 . لقد كان المفسِّرون يُشِيرون إلي أنَّ الله قادرى علي أنْ يَبْعَثَ الإنسان وأنْ يعيده بأدقِّ تفاصيله. ومنها الأصابع بأطرافها بوَصفِها أعضاء مُعقَّدة التركيب تكثُر فيها المفاصل والعضلات والأعصاب. لكن بعد الكشْف الحديث لبصمات الأنامل يمكن - إضافةً إلي القول السابق - أنَّ الله يُعِيدُ هذه الأنامل ببصماتها الدقيقة التي لا تتَشابَهُ مع مُعاصري أو سابق أو لاحق. فهو مستوي من المعني أدَّتْه العربيَّة كأحسن الأداء. إلي غير ذلك من المواضع التي تُطَمئِنُ الإنسان إلي لغةي بارعة تمكَّنت من التعبير عن نفسك لتُفهِم الآخَرين ولتَفهَم عنهم. ولتكون لك أداة ذلولاً تُسخِّرها فتُؤدِّي لك ما تريدُ بكفاءةي واقتدار. لكنَّ ذلك يحتاجُ إلي درجةي طيِّبة من التعلُّم والتدرُّب» حتي يسلس قِيادُ هذه اللغة لِمَن أرادَ ومن باب تيسيرِ تعليمِ هذه اللغة فإنَّ الاستفادةَ من مُعطَيات العصر لَتُعدُّ من الوسائل الممكِنة لهذا الغرض» كاستِعمال الحاسوب وغيره ممَّا أنتجَتْه الحضارة الحديثة. إنَّ مقارنة العربيَّة بغيرها من اللغات في درجة الصُّعوبة والتعقيد لتثبت أنَّ نتيجة تلك المقارنة لصالح العربيَّة. خُذْ علي ذلك مثلاً اللغة الصينيَّة. فإنَّ المتحدِّث بها لا بُدَّ له أنْ يُتقِن أكنز من ثلاثة آلاف مقطع صوتي. لكلِّ مقطعي صورة خطيَّة حتي يستطيع أنْ يتعامَل بهذه اللغة بحريَّة واقتِدار. ومع ذلك فإنَّ أهلَها لم يشكوا ولم يئنُّوا من تلك الصُّعوبة التي يَشعُر بها أبناء العربيَّة تجاه لُغتِهم الحبيبة» ذلك أنهم أدرَكُوا ما تُؤدِّيه هذه اللغة في حياتهم. وأنها وسيلةى من وسائل تحقيق الذات الإنسانيَّة ووسيلة من وسائل توحيدهم. فاعتزُّوا بها واصبروا عليها. فهل نحن أقلُّ من هؤلاء إدراكًا لما تُؤدِّيه لغتنا في حياتنا؟! ويكفي أنْ نعلم أنَّ لغةً كالألمانية يَشِيعُ فيها الإعرابُ» ففيها حالة الرفع والنصب والجر والإضافة. ويَشِيع في قَواعِدها الشُّذوذُ المرصودُ علي كلِّ قاعدةي من قواعدها. بل إنَّك لَتَجِدُ استثناءات تتخلَّل مواضع الشذوذ علي كلِّ قاعدة. ثم إنَّ لكلِّ مفردي جمعًا ينبغي أنْ يُحفَظ عند معرفة مُفرَده» لأنَّ صور الجمع فيها لا تسيرُ علي صوري وطرقي واحدة. فالشُّذوذ فيها والاستثناء هو الأصل. ومع كلِّ ذلك تجدُ الألمانِيَّ يعتزُّ بلغته. ولا يَرضَي بها بديلاً. ويُقبِل عليها المتعلمون والعامَّة» لأنهم يُدرِكون قيمة اللغة في حَياتهم. فهل نحن أقلُّ من هؤلاء إدراكًا لدور اللغة في حياتنا؟! إنَّ إدراكنا لما تُؤدِّيه اللغة في حياتنا من دور عام يتمثَّل في قُدرتها علي القيام بالوظائف التي تُؤدِّيها كلُّ لغةي في حياة المتحدِّثين بها. ثم يُضاف إلي ذلك أنها مدخلنا إلي فهْم دِيننا وما كُتِبَ من عُلومي في حضارة الإسلام. إنَّ ذلك يُمثِّل دافِعًا قويًّا لأنْ ينزل هذه اللغة المنزلةَ اللائقة بها. ثم إذا أضَفْنا إلي ذلك قُدرتها علي أنْ تكون لغة العلم كما كانت بما تمتَّعت به من صِفاتي تُرشِّحها لذلك. مع الاستفادة من معطيات العصر والأخْذ بأسبابه كإدخال الحاسب الآلي في خِدمتها. كلُّ ذلك يدفَعُنا إلي أنْ نحسن اصطِناع هذه اللغة. وأنْ نكون علي يقيني من أنها قادرةى علي الوفاء بما نَطلُبه منها إنْ نحن وفَّينا لها بما تطلُبُه هي منَّا.