إذا كنَّا نُلاحِظ أنَّ غير العرب من كلِّ تجمُّع بشري يعتدُّ بلغته ويُولِيها من العِناية والرِّعاية ما يجعَلُها قضيَّة قوميَّة لها الاهتمامُ الأوَّل والمنزلة الأولي من قَضايا المجتمع. فلماذا لا نجدُ عندنا هذا الاعتِدادَ والاعتِزازَ بلغتنا العربيَّة التي قامَتْ وتقومُ وما تزال قادرةً علي القيام بما تقومُ به اللغات الأخري في حياة المتحدِّثين بها؟.. إنَّ هذا الموقف يَعكِسُ هزَّة نفسيَّة وحَضاريَّة أصابت المتحدِّثين بالعربيَّة لأسبابي تجمَّعت عليها وعلي المتكلِّمين بها كان من جَرَّائها أنْ أهمَلَ الكثيرون هذه اللغة وباتَ بعضُهم ينظُر إلي غيرها ليجدَ فيه ما قد يُبلِّغه أمَلَه في الحصول علي مركزي أو مال بإجادة غيرِها. لقد مرَّت علي هذه اللغة فتراتى أهمَلَ ذوو السُّلطان وأولو الأمر شأنَ العربيَّة» ممَّا جعَل الناس ينصَرِفون عنها إلي غيرها ممَّا يُحصِّلون به غرضَهم من المال أو الجاه» فمدرِّس العربيَّة مثلاً لا يتحصَّل في بلاد هذه الأمَّة في الغالب الأعمِّ علي الراتب الذي يَكفِيه ليَعِيشَ عيشةً كريمة. لقد أدرَكَ أعداءُ هذه الأمَّة علي مَدار تاريخها الطويل ممَّن حاوَلوا أنْ يقضُوا عليها أنها أمَّةى غير قابلةي للذَّوبان في هويَّة وذات مَن يَغزوها ويحتلُّها. ولقد أدرَكَ أنَّ تديُّن هذه الأمَّة هو سِرُّ تماسُكها واعتِصامها. وسرُّ دَوامها علي هذا النَّهج» فكانت حملتهم علي الرُّموز الكبري والشخصيَّات العُظمي في تاريخ هذه الأمَّة» ليَصرِفوا الناسَ عن الاقتداء بهم والسَّيْر علي نهجهم. لكنَّ هذه الحملة لم تُفلِح ولم تُؤتِ الثَّمرة المرجوَّة منها. فقد قيَّض الله مَن ردَّ علي مِثل هذه الافتراءات» فأخرج العقاد مثلاً عبقريَّاته التي ردَّ بها علي مِثل هذه الحملات. لذلك فكَّر أعداءُ هذه الأمَّة في وسائل أخري» لعلَّهم يستطيعون بها أنْ يُقوِّضوا سِرَّ تَماسُكها ويُفتِّتوا مادَّة وَحدتهم وقَوامهم. إضافةً إلي ما سبَق الإشارة إليه. فمن ذلك: مُحاوَلة القَضاء علي مادَّة تماسُك هذه الأمَّة بقوَّة السلاح. وقد تمثَّل ذلك في حُروبي وحملاتي خاضَها أعداءُ هذه الأمَّة للقَضاء عليها بقُوَّة السلاح فما استطاعوا. وإذا بهم بعد فترةي يُفاجَؤون بأنَّ تلك الحملات ما هي إلا هزَّة تفيقُ من جرَّائها هذه الأمَّة. ليزداد تماسُكها وتعظُم قوَّتها من جديد. ومن ذلك: عرض النموذج الأدبي للحياة الراهنة علي أنَّه آخِر حلقة من تطوُّر حَيوات البشر. وأنَّ البشريَّة تمرُّ بمراحل من التطوُّر. وأنْ ذلك يتمُّ في حلقات تسلم الواحدة منها إلي الحلقة التي تَلِيها» فمن المجتمع البدائي. إلي المجتمع الأسطوري. إلي المجتمع المتديِّن. إلي المجتمع الحديث علي نموذجي صَوَّرَه الغرب يقومُ علي أسسي ومَبادئ تُخالِف في أخلاقيَّاتها وعاداتها وأعرافها ما عليه هذه الأمَّة. وقد استَطاع هذا العرض للنموذج الأوربي في الحياة جَذْبَ عددي غير قليلي. حاكَي في حَياته الغَرْبَ غالبًا في المظهَرِ لا الجوهر والمخبر. وكان أنِ اهتمَّ بلغةي أخري غير لُغته القوميَّة لينقل بها ويفهم هذا النموذج الغربي. ومن ذلك: أنَّ أعداء هذه الأمَّة قد أدرَكُوا أنَّ تديُّنها هو سِرُّ استِعصائها علي الذوبان في هويَّة غيرها. وأنَّ اللغة هي الوسيلة إلي فهمها لدِينها. ومن هنا توجَّهت الهمم وتَبارَي المخطِّطون والمنفِّذون لتعبئة روح ونفوس ناشئة الأمَّة ضد العربيَّة. بتصويرها لغةً صعبةً مُعقَّدة. لا تُجارِي العصرَ. ولا تستطيع أنْ تُغيِّر عن مُستَحدَثاته. قد اتَّخذوا لذلك وسائل شتَّي» فمن ذلك أنْ يظهر مدرس العربيَّة والدِّين بمظهر غير لائقي ولا حضاري في بعض الأعمال المسرحيَّة والمسلسلات. من جرَّائها يُعبَّأ شعور ناشئة هذه الأمَّة بالكراهية لمدرِّس اللغة العربيَّة والدِّين. ومن هنا فقَدت العمليَّة التعليميَّة أسمي أواصرها ورَوابطها. وهو عاطفةُ الاحتِرام والحب المتبادَل بين المعلِّم والمتعلِّم» ممَّا مهَّد لخطَري عظيمي هو إهمالُ هؤلاء الناشئة للغة وحِصَصِها» فأدَّي ذلك إلي ضعفهم فيها. وصَيْرورتها عقبةً أمامهم بتقادُم العهد وطُول الزمن. ومن ذلك تخبُّطى لا يمكن إغفاله في مَناهج اللغة وكيفيَّة تدريسها. لقد فقدت الناشئة في هده الأمَّة مَعِينًا كان يُغذِّي فيها تمكُّنَها من اللغة. هذا المَعِين يتمثَّل في حِفظ شيءي من القُرآن الكريم وبعض الحديث في الكتاتيب أو دُور تحفيظ القُرآن الكريم كما يحلو لبعضهم أنْ يُسمِّيها. فكان هذا المحفوظ يُمثِّل ثروةً وزادًا لهؤلاء. منه يتعلَّمون كيفيَّة التعبير عمَّا في نُفوسهم في قوالبَ مُستَقاة من ذلك المحفوظ في سِنِّ الصِّبا والصِّغَر. پيُضاف إلي ذلك أنَّ المعاهد والجامعات التي تُخرِّج مُدرِّسي اللغة العربيَّة قد فشلت إلي حَدّي كبيري في تقديم المقرَّرات الدراسيَّة التي تُؤهِّل خِرِّيجها ليكون مُدرسًا ناجحًا ونموذجًا يُحتَذي به. فكثيرى من المقرَّرات الدراسيَّة ما هو إلا اجتهاد شَخصي في أحسن الأحوال إنْ لم يكن تدريسًا لرسالةي أو بحثي تقدَّم به في تاريخه العلمي. لا يصلح في كثيري من الأحيان - وإنْ كان ذا قيمة علميَّة لا يمكن إنكارها - لأنْ يكون لَبِنَةً أو خُطوةً في إعداد هذا المعلِّم. وممَّا تعاظَم أثَرُه في هذا الجانب فتنةُ الناشئة بهذا التطوُّر العلمي الذي أحرَزَه الغرب» ممَّا حَدَا بقطاعي كبيري إلي أنْ جعَل لغة علم الغرب محطَّ آمالهم ومُنتَهي اهتِمامهم راغبين في أنْ يُحرِزوا ما أحرَزُوه. وأنْ يصلوا إلي ما وصَلُوا إليه.إنَّ تعلُّم لغة العلم - أيًّا كان نوعها - يُعَدُّ مَطلَبًا يجب أنْ تسعي إليه هذه الأمَّة. لكنَّ ذلك لا يكون علي حِساب اللغة الأم أو اللغة القوميَّة كما بقولون. ومن ذلك: سعيُ بعض المدارس والمؤسسات التعليميَّة في المراحل الأولي إلي أنْ تكون لغة التعليم الأساسي غير العربيَّة» كالإنجليزيَّة أو الفرنسيَّة أو الألمانيَّة. منذ استِقبال الطفل لتعليمه. فلا يجدُ العربيَّة ولا يُصادِفها إلا في حِصَصِ اللغة العربيَّة والتربية الإسلاميَّة. أمَّا برامج التعليم الأخري فلغتها كلُّها غير العربيَّة» ممَّا يُلقِي في روع الناشئ أهميَّةً خاصَّة تكتسبها تلك اللغة الأخري علي حِساب لغته الأم. وخاصَّة بعد أنْ صار إتْقانُ لغةي من تلك اللغات مَدخَلاً واسعًا لسَعة العيش وتحصيل أسباب الرِّزق. هذا ما نفعَلُه بناشِئتنا وصِغارنا. في حين أنَّ الدول التي ندفَعُ بأبنائنا إلي تعلُّم لُغاتها. تُحرِّم وتُجرِّم تدريسَ غير اللغة القوميَّة علي الناشئة حتي يصلوا إلي مراحلَ مُعيَّنة من السنِّ والتعليم لتُتاح الفرصة للغة الأمِّ لتستكنَّ في نُفوس أبنانها. إذا لاحَظْنا أنَّ العربيَّة تُؤدِّي ما تُؤدِّيه غيرُها من اللُّغات في حياة البشر بصفةي عامَّة. وقد رأينا كيف أنها تقومُ بكلِّ ذلك بتمكُّن واقتِدار. فإنها بالإضافة إلي ذلك تقومُ في حَياتنا بدوري خطير وفعَّال. فهي مَدخَلُنا إلي فهْم كتاب الله وسنَّة رسوله - صلَّي الله عليه وسلَّم - وما دار حول هذين الأصلين من عُلوم علي مَدَي تاريخ هذه الأمَّة. ذلك التاريخ الذي يُجاوِز ألفًا وأربعمائة عام. إنَّ العربيَّة هي المدخل الطبعيُّ إلي فهْم هذه العُلوم فَهْمًا صحيحًا لا لبسَ فيه ولا غُموض. ولا زيغ ولا خطا» إذ إنَّه كلَّما تمكَّن الإنسان من العربيَّة كان فهمه لنُصوصها أجوَدَ وأسلَمَ. وكلَّما تدنَّي مُستَواه وتمكُّنه منها كان فهْمه أردأ وإلي الخطأ أقرب. ونحنُ بحاجةي ماسَّة إلي الفَهْمِ الصحيح حتي نستطيع أنْ نحسن الاتِّباع الذي أمَرَنا به خالِقُنا. وأشار إلي شيءي من أثَرِه علينا في نحو قوله - تعالي: "فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَي" طه: 123. فحُسن الاتِّباع ينجو به صاحِبُه من الضَّلال والشَّقاء ولا يكون حُسن الاتِّباع إلا بِحُسن الفهْم ولا يكونُ حُسن الفَهم وجَوْدته إلا بأنْ يتمكَّن الإنسان من لغته العربيَّة وأنْ يَرقَي مُستواه فيها. وهو أثَر لو لم يكن غيره منها لكفي به دافِعًا لأنْ نُنزِل هذه اللغة المنزلةَ اللائقة بها. وأنْ نعتزَّ بها كما يعتزُّ غيرُنا بلغته سَواء بسواء. وللحديث بقية العدد القادم بمشيئة الله تعالي