مانديلا.. هذا الرجل له جاذبية خاصة.. ليس لأنه ناضل وكافح لما يزيد علي مدة نصف قرن قضي أكثر من نصفها في السجن.. ولكن لأنه كان وسيزال حتي بعد موته.. مثالا.. لكل الشعوب التي ناضلت ومازالت لحياة أفضل.. ومن أمامها رجال يهدونها للطريق بلا سلطة أو طمع في جاه أو كرسي.. والأهم أن الرجل اختار لنفسه طريقا للخروج من السلطة وأعبائها.. ضاربا مثلا لايحتذي للأسف لإنكار الذات. وعبر مسيرة امتدت لأكثر من 94 عاما حتي الآن. وخلال الأيام القادمة.. وضع العالم كله يده فوق قلبه.. وهو يراقب الرجل الذي أرهق كاهله 94 عاما بالتمام والكمال.. ودخل المستشفي وهو يعاني من آلام السنين وعذابات الشيخوخة.. ولم يعبأ الرجل بما ظنه الناس من أن أجله قد حان.. أو أنه علي شفا خطوة من دنوه. ولكنه وكالعادة.. راح بعد إفاقته المؤقتة يراجع مع محبيه شريط ذكرياته الذي امتد حتي طال العالم كله وليس بلده فقط: جنوب أفريقيا. ومن خلاله قضي أكثر من 27 عاما خلف قضبان سجن لايرحم.. فوق جزيرة نائية عن البشر والشجر. وحياة مانديلا.. توحي لك بكل ذلك.. منذ ولادته في العام 1918.. ولقبه الذي أخذه من قبيلته (ماديبا) ويعني العظيم المبجل.. وكان والده رئيس القبيلة وتوفي عندما كان مانديلا لايزال طفلا.. وهنا انتخبوه ليحل محل والده: زعيما للقبيلة. وكان لوالده 4 زوجات و13 ابنا وابنة.. وكان مانديلا الابن من الزوجة الثالثة لوالده.. وكان أيضا أول أطفال أبيه الذي ذهب للمدرسة حتي حصل علي درجة في الآداب.. وهوايات أخري كان أشهرها، العدو والملاكمة، ورغم معاناته في الحصول علي عمل في العاصمة جوهانسبرج إلا أنه نجح في العمل بمكتب محاماة.. وهنا بدأ نضاله السياسي بعد أن انضم للمجلس الأفريقي القومي ضد سياسات التمييز العنصري للنظام الأبيض الحاكم ضد الأغلبية السوداء.. وخلال ذات الفترة أصبح مانديلا زعيما للمعارضة ضد النظام وبطرق غير مسلحة وسلمية. ولكن بعد إطلاق جنود النظام للأعيرة النارية ضد متظاهرين عزل في العام 1960.. وإقرار النظام للعنصرية بقوانين ومراسيم.. تحول السود ومنهم مانديلا وللمرة الأولي للكفاح المسلح في ذات العام. وهنا .. بدأت مسيرة مانديلا ورفاقه الحقيقية.. حينما أصبح في العام التالي زعيما للجناح العسكري للمجلس القومي الأفريقي.. وبعدها بعام آخر تم اعتقاله لمدة 5 سنوات لنيته للإضراب العام.. ثم حكموا عليه مرة أخري وقبل خروجه من السجن في العام 1964 بالخيانة العظمي والسجن مدي الحياة. ولكن ماذا فعل الرجل؟ أصبح سجينا ولمدة فاقت ال 27 عاما.. ورغم عرض السلطات الإفراج عنه مقابل إعلان وقف المقاومة المسلحة في العام 1985.. إلا أنه رفض وفضل الجلوس سجينا حتي العام 1990 حينما أفرجوا عنه.. لينال بعدها ب 3 سنوات فقط.. جائزة نوبل للسلام. وبعدها بعام.. ترأس مانديلا رئاسة المجلس الأفريقي وحتي العام 1997، وحينها أيضا أصبح أول رئيس أفريقي أسود لبلده من مايو 1994 وحتي يونيو 1999.. وفيها حصلت بلده لأول مرة علي حكم الأغلبية دون تفرقة عنصرية.. حتي فضل الرجل أن يتقاعد باختياره وهو في سن ال 81 عاما. ورغم ذلك.. استمر في تجواله وأشعاره حول العالم ومساندة الحركات الثورية فيه.. حتي قرر الاعتزال نهائيا وهو في سن ال 85 في العام 2003. والغريب.. أن الولاياتالمتحدةالأمريكية.. لم تتذكر أن الرجل كان حتي العام 2008.. لايزال مدرجا ضمن قائمتها السوداء.. لائحة الإرهاب حول العالم.. ووقتها قررت أمريكا شطب اسم مانديلا من هذه اللائحة. ولكن ماذا بقي من مانديلا؟ حول العالم .. يذكرون له الجوائز العديدة التي نالها ومنها جائزة نوبل للسلام.. ولينين للسلام.. وشخصية العالم من مجلة (التايم الأمريكية) ذائعة الصيت.. وميدالية الكونجرس الذهبية والوسام الرئاسي للحرية.. وغير ذلك الكثير.. وفي بلده.. يذكرونه بمؤسسة مانديلا في أفريقيا وحول العالم بإنجازاتها السياسية والخيرية. أما الشرفاء من مناضلي العالم.. ورجال ثوراته.. فمازالت كلماته ترن في آذانهم.. ومنها الكثير: قوله مثلا: إننا نقتل أنفسنا بعد أن نضيق خياراتنا في الحياة. وقوله وهو داخل السجن من أنه كانت هناك لحظات مظلمة كثيرة اختبر فيها ثقته بالإنسان بقوة.. ولكنه رغم ذلك لم يترك نفسه لليأس أبدا الذي كان يعني له ببساطة: الهزيمة والموت.. وتجربته هي أقوي طرق التعلم في حياته كلها.. وهي التجربة التي صاغها في كتابه (المسيرة الطويلة من أجل الحرية).. وحكي فيه نضاله منذ الصغر وحتي خريف عمره.. الذي لازال يعيش فيه وبذكرياته .. وبنفس طريقته المتواضعة في الحياة حتي وهو يقبع في القصر الرئاسي الذي لم يكن يبعد إلا دقائق من منزله سيرا علي الأقدام. مانديلا.. عاش مانديلا.. مات مانديلا.. رغم كل ذلك .. باق!!