هو سفيان بن سعيد الثوري أمير المؤمنين في الحديث، العالم، الزاهد، القوي في الحق، ناصح الملوك ومحيرهم، فأمامه تتضاءل قامتهم، وتتواري هيبتهم، ولايملكون إلا أن يغضوا أبصارهم، فهو ناصح بكلمات الله لايهاب إلا وجهه الكريم، لم يهتز له جفن أمام ذهبهم ولا سيوفهم وأصابهم بالخوف والرعب من تذكيرهم بيوم الحساب ولقاء الله، وعندما التقي سفيان بأبي جعفر المنصور نكس أبو جعفر رأسه وخرج سفيان من لقائه مرفوع الرأس. عاصر الثوري وهو في قمة علمه ونضجه الخليفة العباسي الذي كان كثيرا ما يطلب الثوري لمقابلته ويرفض الثوري ذلك اللقاء، حتي جاء اليوم الذي التقي فيه الخليفة والعالم ب"مني" في موسم الحج فقال له سفيان "اتق الله فإنما أنزلت هذه المنزلة، وصرت في هذا الموضع بسيوف المهاجرين والأنصار، وأبناؤهم يموتون جوعا، وحج عمر بن الخطاب فما أنفق إلا خمسة عشر دينارا، وكان ينام تحت الشجر . فقال له الخليفة : أتريد أن أكون مثلك؟ فقال له الإمام : لاتكن مثلي، ولكن كن دون ما أنت عليه، وفوق ما أنا فيه.فأمسكه الخليفة من ثيابه وهو يكاد ينفجر من الغيظ ومن قوة إيمان الثوري وحول وجهه إلي الكعبة وقال له برب هذه الكعبة أي رجل رأيتني؟ فرد عليه الثوري : برب هذه الكعبة بئس الرجل رأيتك، وأطلق يده، وتركه وذهب. ولم ينس الخليفة إهانة الثوري له وقوته في الحق وضاق به، فأصدر أمره إلي النجارين بعد أن خرج من مكة " وكان ينوي أن يعود إليها مرة ثانية ،إن رأيتم سفيان الثوري فاصلبوه .فجاء النجارون فنصبوا الخشب وبحثوا عن سفيان فوجدوه نائما ورأسه في حجر فضيل بن عياض ورجلاه في حجر سفيان بن عيينة فقالوا له: يا أبا عبد الله اتق الله ولا تشمت بنا الأعداء، ، فتقدم معهم إلي الكعبة وأمسك بكسوتها وقال " برئت منه إن دخلها أبو جعفر، فمات الخليفة قبل أن يدخل مكة. ولد سفيان بن سعيد الثوري في عام 95 هجرية بالكوفة وكان والده من كبار علماء الحديث ولقد ذكره المؤرخون في أئمة الحديث الذين أخذ عنهم سفيان، وكان والده أول من تلقي عنه سفيان العلم، فنشأ سفيان في بيت علم، وكان تلقيه العلم أمرا مفروغا منه حتي سكن العلم قلبه وقال هو في ذلك "طلبت العلم فلم تكن لي نية، ثم رزقني الله النية" وإلي جانب علم والده كانت أمه سيدة تقية، ذات علم وعقل راجح لم يتأثر بصعوبات الحياة وقلة الرزق وكانت تحث ابنها علي طلب العلم حتي أنها قالت له "يا بني، اطلب العلم وأنا أعولك بمغزلي، وإذا كتبت عشرة أحرف، فانظر هل تري في نفسك زيادة في الخير، فإن لم تر ذلك فلا تتعبن نفسك" . وبدأ سفيان يتعلم مستجيبا لأمه ومتبعا لأبيه وبمجرد أن دخل في طور الشباب لم يرض أن تعوله أمه بمغزلها وبحث عن مصدر للرزق الحلال فسأل عن أفضل الحلال في العمل؟ فقال له أهل العلم " التجارة، أو العطاء من إمام عادل، أو صلة من أخ مؤمن، أو ميراث لم يخالطه شيء، فاختار الثوري أن يعمل بالتجارة وكان يحث طالبي العلم علي العمل وعدم الاتكال علي العطايا حتي أنه قال " لأخلف عشرة آلاف درهم أحاسب عليها، أحب إلي من أن احتاج إلي الناس" وتاجر سفيان مسافرا ولم يهتم بمن نصحوه بأن جلال العلم لايتفق مع طلب الرزق وسافر إلي اليمن في تجارته وعندما رجع منها قال له "ابن عيينة" يا أبا عبدالله، عاب عليك الناس خروجك إلي اليمن فقال: "عابوا غير معيب، طلب الحلال شديد، خرجت أريده" واستمر سفيان بتجارته حتي كان يعطي الناس مالا يتاجرون فيه لحسابه ويأخذ ربحه منهم، حتي يجد وقتا لطلب العلم، ويذكر الدكتور عبد الحليم محمود في كتابه عن سفيان الثوري " أن حجم تجارته كانت ألفي درهم، وأنه كان يدخر المال لوقت الحاجة حتي أنه في يوم جاءه رجل وقال له "يا أبا عبدالله تمسك هذه الدنانير؟ وكان في يد سفيان خمسون دينارا، فقال له سفيان: لولا هذه الدنانير لتمندل بنا الملوك" أي جعلونا في أيديهم كالمناديل يمسحون بها أيديهم ثم يلقونها"، وذكره الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء "هو شيخ الإسلام، إمام الحافظين، سيد العلماء العاملين في زمانه أبو عبد الله الثوري الكوفي المجتهد، مصنف كتاب الجامع، وقال عنه علي بن الحسن بن شفيق بن عبد الله "ما أعلم علي الأرض أعلم من سفيان، وقيل إن عدد شيوخه ستمائة ومنهم إبراهيم بن عقبة والأسود بن قيس وجعفر الصادق وحبيب بن ثابت وسليمان التميمي" . وكان سفيان الثوري أحد الأئمة الخمسة المجتهدين وروي عنه الحديث ابن عجلان وأبو حنيفة وابن جريج وابن اسحق وابن وهب وكتب الدكتور عبدالحليم محمود عنه أنه كان معنيا بالقرآن عناية كبيرة وكان يديم النظر في المصحف، فيوم لاينظر فيه يأخذه فيضعه علي صدره وكان معنيا بتفسير القرآن ولكنه لم يفسره علي الطريقة المعروفة الآن وهي تتبع القرآن من أوله سورة سورة ، وآية آية ، وأنما كان يفسره آية من هنا وآية من هناك فكان يفسر الآية التي تحتاج إلي نوع من الشرح والإيضاح الذي يحتاج إليه الناس لقصورهم في اللغة أو الثقافة . وجاء في الطبقات الكبري "للإمام الشعراني" أنه كان عابدا يقيم الليل، شديد الورع والتقوي وقال عنه "ابن وهب" "رأيت الثوري في الحرم بعد المغرب سجد سجدة فلم يرفع رأسه حتي سمع أذان العشاء" وقال عنه ابن مهدي من علماء عصره "كنت لا أستطيع سماع قراءة سفيان من كثرة بكائه". وجاء في كتاب "جامع كرامات الأولياء للنبهاني" أن الإمام اليافعي حكي أن الثوري كلمه أصحابه لما رأوا ما هو عليه من شدة الخوف وكثرة المجاهدة والجهد فقالوا له: يا شيخ لو نقصت عن هذه المجاهدة التي نراها بك نلت مرادك إن شاء الله تعالي، فقال لهم : كيف لا أجتهد كل الاجتهاد وقد بلغني أن أهل الجنة يكونون في منازلهم فيتجلي لهم نور عظيم تضيء له الجنان الثماني من شدة ضيائه وحسن بهائه، فيظنون أن ذلك النور من قبل الرحمن سبحانه وتعالي فيخروا ساجدين، فينادي مناد ارفعوا رؤوسكم ليس هذا الذي تظنون ،إنما هو نور حورية تبسمت في وجه زوجها، فظهر من تبسمها ذلك النور، فليس يا إخواني يلام من اجتهد في طلب الحور الحسان، فكيف من يطلب المولي الرحمن . وزاد علم سفيان الثوري وزاد معه صيته في الورع والتقوي والزهد، وانتشرت قصة استجابة دعائه علي أبي جعفر المنصور حتي حرص الخليفة العباسي المهدي علي تقريبه إليه وضمه إلي صفه وأن يستميله إليه حتي يكسب بقربه رضا العامة والرعايا وكانت رغبة الخليفة بداية محنة الثوري الذي كان يبتعد عن الملوك فيسعون هم وراءه، فأرسل الخليفة المهدي في طلب سفيان الثوري، فلما دخل عليه خلع الخليفة خاتمه ورمي به إليه وقال له : يا أبا عبدالله، هذا خاتمي فاعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة فأخذ الخاتم بيده وقال : تأذن في الكلام يا أمير المؤمنين؟ فرد عليه الخليفة :نعم. فقال الثوري: أتكلم علي أني آمن؟ فقال : نعم. فقال الثوري: لاتبعث إلي حتي آتيك، ولا تعطني شيئا حتي أسالك. فغضب الخليفة وهم بأن يعاقبه، فذكره كاتبه بأنه قد منحه الأمان، وخرج الثوري من عند الخليفة، فوجد أصحابه في انتظاره، وعندما عرفوا ما حدث قالوا له: ما منعك يا أبا عبد الله، وقد أمرك أن تعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة؟ فرد عليهم بأن عقولهم صغيرة وهرب إلي البصرة بعيدا عن الخليفة، ومكث فيها بعض الوقت ثم رحل إلي مكة وهناك أرسل الخليفة إلي والي مكة مطالبه بأن يبحث عن الثوري ويأتيه به، فبعث الوالي مناديا ينادي عليه بمكة، وعندما كلمه وكان يقدره ويعلم مكانته وعلمه ويرغب في مساعدته، قال له إن كنت تريد أن تذهب إلي الخليفة فأظهر نفسك، وأن كنت لا تريد ذلك فتواري، فاختبأ سفيان في منازل العلماء وكان لا يظهر إلا لطلبة العلم، واستمر الوالي في إرسال المنادين في دروب مكة للمناداة علي الثوري حتي لايغضب الخليفة عليه، وعندما شعر الثوري بالخوف من ذياع صيته في مكة خرج منها متوجها للبصرة، وكان يذهب إليه العلماء في الخفاء ويتنقل بين منازلهم هربا من مطاردة الخليفة له ومن مناصب كان يخاف منها علي علمه، حتي أن أصدقاءه أشفقوا عليه من اختبائه من الخليفة الذي رصد مكافأة لمن يدله علي مكانه فقالوا له : فلماذا لاتدخل علي الولاة فتعظهم وتنهاهم ؟ فقال: أتأمرونني أن أسبح في بحر ولا تبتل قدماي إني أخاف أن يترحبوا بي فأميل إليهم فيحبط عملي. وظل مختبئا من "عطايا الخليفة" حتي أصابه المرض وعندما شعر الثوري بدنو أجله دخل عليه تلاميذه يزورونه وكان من بينهم عبدالرحمن المهدي وسفيان بن عيينة فوجدوه يبكي بشدة فسألوه لم البكاء؟ فقال لهم " إني لأخاف من ذنوبي فهي أهون علي من هذه وأشار علي قطعة من القماش البالي ولكني أخاف أن أسلب وظل يبكي طوال الليل ودخل عليه رجل يزوره وحدثه بحديث لم يسمعه من قبل، فأخرج لوحا من أسفل سريره وكتب عليه الحديث، فقيل له أتكتب وأنت في هذه الحال فقال " لأن ألقي الله عز وجل وأنا أعلم هذا الحديث خير من أن ألقاه وأنا لا أعلم " وظل يدعو ويبتهل ويبكي حتي مات عن عمر أربعة وستين عاما، وذكر عبد الرحمن المهدي "كنت مع من غسل الثوري فوجدت مكتوبا علي جسده "فسيكفيكهم الله" وأضاف وخرجنا به في الليل لندفنه وكان الليل كالنهار من شدة الضياء. ومات الثوري وترك تراثا هائلا من العلم والمحبة حتي أن كثيرا من تلاميذه ذكروا أنهم رأوه في المنام وهو يطير من جنة إلي جنة، بعد أن كان في الدنيا إماما للحديث وللمحبة والزهد وحقق المعادلة الصعبة ما بين العلم والتصوف ويقول عن ذلك الدكتور سامي حجازي أستاذ التصوف والأخلاق بجامعة الأزهر: عندما ننظر لحياة سفيان الثوري نجد أنه سلك طريق موالاة الله بالطاعة، فولاه الله بالتأييد وأصبح يمثل طريقا في الزهد والتصوف والعلم والحديث الذي يعد الرابط ما بين الإيمان والشريعة ومن هنا أصبح سفيان الثوري يقتدي به بين أهل السنة وأهل السلوك والمقصود بهم الصوفية، الذين صفت قلوبهم، فالله يلقي المحبة في القلب، كما يلقي النظر في العين، لتصبح البصيرة كالبصر، والثوري ممن اصطفاهم الله فصفي قلبه كما صفت نفسه.