أهوي الجلوس بجوار النافذة في أي وسيلة مواصلات، حتي أستطيع مشاهدة المناظر الخارجية كشريط السينما الذي يمر من أمام ناظري. وفي ذلك اليوم سعدت كثيرا عندما عثرت علي هذا الكرسي المفضل لدي، وبعد أن مكثت برهة من الزمن سارحة في ملكوت الله، فوجئت بوقع من يجلس بجواري نظرا لوزنه الثقيل الذي أحدث اهتزازا في مقعدي، ولحظتها قلت في سري لابد أن أستعد للهجوم علي حدود مقعدي التي أعتبرها من خصوصياتي وأرفض تماما أن يتجاوزها أحد.. وأدخل في مناقشات حامية مع من يقوم بذلك والتي قد تنتهي بأن أضع شنطتي بالقوة كحد فاصل بيننا.. وقبل أتهيأ للمواجهة الشرسة وجدت هذا الشخص قد راح في سبات عميق ويشخر في نومه من كثرة التعب الذي بدا عليه.. وقد صعب عليّ حاله وقلت لنفسي عيب قوي أنك تفكرين في الناس بهذا الشكل وبعد أن لمتها ووبختها علي ظنها السييء.. عاودت النظر إلي الخارج الذي مللت من رؤيته (دون تجديد) لسنوات طويلة علي هذا الطريق المؤدي لبيتي والذي أصبح يستغرق ضعف الوقت بسبب كثرة السيارات والمزلقانات والمطبات إلي آخره. وبين الحين والآخر أختلس نظرة علي النائم بجواري، فأجده مستغرقا في نومه، وفجأة لاحظت تشابك أصابع يديه مع بعضهما البعض علي كيس بلاستيك شفاف وكأنه قابض علي شيء ثمين.. فإذا هي بضعة أرغفة مدعمة داخل الكيس وقد وضعها علي بطنه وقبض عليها بإحكام وكأنه خائف من أن يأتي أحد لسرقتها! في البداية لم أندهش كثيرا، فمعظم الركاب يحملون أكياس العيش وهم عائدون من القاهرة إلي مدنهم وقراهم في محافظتي. ولكني تخيلت هذا البدين الذي من ملامحه المرهقة ووجهه المجهد وهو يحلم في يقظته بأي غموس سوف يلتهم به هذه الأرغفة المعكوكة تحت أصابعه بعد أن هرسها من قوة القبض عليها.. ياتري طبيخ فيه لحمة واللا سمك واللا فراخ واللا الحلم هيصبح كابوسا بعد أن يفيق ويجد أنه سيأكلها حاف ويحمد ربنا علي ذلك.. لا أعرف .. هناك ماجعلني أطمئن إلي أن الجثة الهامدة التي ترقد بجواري لايمكن أن تحلم »بالغموس« فقط يكفيها إن استطاعت الحصول علي هذه الأرغفة بعد طول عناء في الطابور الطويل.. المهم في الأمر أنها ستدخل علي عيالها ويدها مليانة بالستر والعيش.. فقد أطلق المصريون علي الخبز.. اسم العيش بمعني الحياة وهذا القصد لايدركه المسئولون في بلادنا.. وهو أن العيش هو العدالة الاجتماعية المفقودة التي يجب أن يتمتع بها كل إنسان مصري، فإذا اختفي فإن هذا ينذر بحدوث المجاعات والثورات.