تخلع نعليك وتدخل بيمينك من بوابة جامع عمرو بن العاص تنفصل عن الشارع بضجيجه وتحل عليك سكينة ويكتنفك الهدوء، فالتاريخ ترك علاماته علي جدران المسجد الجامع وعبق صحابة رسول الله صلي الله عليه وسلم حاضر في ساحة المسجد، كيف لا وهو أقدم جوامع مصر وأفريقيا، بل أول جامع بُني خارج آسيا، شارك أكثر من 80 صحابيا في بنائه ووضع أساسه وتحديد قبلته، فحلت بركتهم علي المكان، فاعتقد فيه المصريون أن الدعوة فيه تجاب، وتوافد عليه الآلاف خصوصا في شهر رمضان للصلاة والتعبد واستحضار تاريخ كتب فيه الإسلام صفحات خالدات. ويعدُّ مسجد عمرو بن العاص من أشهر وأكبر المساجد في مصر، وهو يقع في قلب مدينة الفسطاط أول عاصمة عربية إسلامية في مصر، التي تعرف حاليا بمصر القديمة، والمسجد كما هو معروف من بناء الصحابي عمرو بن العاص، قائد جيش الفتح العربي الإسلامي، الذي دخل مصر في العام 21 هجريا/ 641 ميلاديا، وبعد انتهاء المواجهات العسكرية مع جيوش الروم، استقر المسلمون في المنطقة الملاصقة لحصن بابليون، وتم بناء الفسطاط، لتكون أول عاصمة إسلامية لمصر، فأصبحت مصر بعد الفتح حصن الإسلام ورباطه في جناحه الغربي، فمنها انطلقت الجيوش التي فتحت المغرب العربي كله ثم الأندلس، حتي قال عمرو بن العاص نفسه "إن ولاية مصر جامعة تعدل الخلافة". واختار عمرو بن العاص مكانا مرموقا لمسجده فكان في منتصف مدينة الفسطاط، بالقرب من مجري النيل، يتوسط أحياء القبائل التي شاركت في الفتح وسكنت المدينة الجديدة – آنذاك - وشارك فيه العديد من الصحابة أمثال الزبير بن العوام وعبادة بن الصامت، ولمكانة جامع عمرو أطلق عليه العديد من الألقاب منها: الجامع العتيق، وتاج الجوامع، ومسجد الفتح، ومسجد النصر، ومسجد أهل الراية، وجامع مصر، وقطب سماء الجوامع، كما يعدُّ أول جامعة إسلامية قبل الأزهر والزيتونة والقيروان، كما يعدُّ شاهدا علي شخصية عمرو بن العاص الصحابي الجليل وانتصاراته وفتوحاته فهو ممن كانت لهم اليد الطولي في امتداد رقعة الدولة الإسلامية وكذلك دخول الإسلام مصر. ولم يحتفظ الجامع بشكله المعماري المميز في عصر عمرو بن العاص بل تعرض لعمليات هدم وإعادة بناء علي فترات متتالية وبصفة مستمرة، إذ تم هدم البناء القديم بأمر من معاوية بن أبي سفيان الذي رغب في توسعة المسجد ليستقبل أعداد المصلين المتزايدة، ثم قرر الوالي الأموي عبد العزيز بن مروان زيادة مساحة الجامع، ثم قرر الوالي قرة بن شريك إجراء صيانة شاملة للمسجد وزيادة مساحته، كما زاد الوالي العباسي صالح بن علي العباسي في مساحته، ثم أجري الوالي العباسي عبد الله بن طاهر أكبر زيادة في مساحة المسجد إذ زاد مساحته إلي الضعف، وتم بناء الجامع أكثر من مرة كان آخرها في العصر الحديث وروعي فيها الحفاظ علي الطابع البسيط والتاريخي للجامع. يقول الشيخ رشاد عبد العال، المسؤول عن الجامع من قبل وزارة الأوقاف، ل "دين ودنيا": "الجامع أول مسجد في مصر وأفريقيا والرابع في الإسلام، فالأول مسجد قباء بُني في السنة الأولي للهجرة، ثم مسجد البصرة سنة 14 هجريا، والثالث مسجد الكوفة سنة 17 هجريا، ثم المسجد الرابع وهو جامع عمرو بن العاص سنة 21 هجريا، فعندما وصل عمرو بن العاص بني الخيمة بالقرب من حصن بابليون (مكانها الركن الشمالي من المسجد)، وعندما عاد من فتح الإسكندرية تقرر بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب بناء مدينة إسلامية تكون مقر الإدارة فنشأت الفسطاط وفي وسطها الجامع الذي بُني علي مساحة 35 مترا في 35 مترا". وتابع عبد العال: "عندما أخذ عمرو بن العاص الأرض من الصحابي الجليل قيسبة بن كلثوم، وعرض عليه ابن العاص أن يعوِّضه عنها، ولكن الصحابي ابن كلثوم رفض وتبرع بالأرض لصالح جميع المسلمين، فكانت أرض المسجد أول وقف إسلامي في مصر، كما أشرف علي بنائه أربعة من الصحابة في مقدمتهم الصحابي أبو ذر الغفاري، وقام بتحديد القبلة ثمانون من صحابة رسول الله صلي الله عليه وسلم، ويقال إن عمرو بن العاص حددها بنفسه، ولكنه انحرف بها نحو الشرق، ثم قام بتصحيحها الوالي الأموي قرة بن شريك بعد بناء المسجد بنحو 70 عاما، فيما كان الصحابي أبو مسلم اليافعي يؤذن فيه ويبخره. ويواصل عبد العال قائلا: "وبعد أن أخذ عمرو بن العاص الأرض من قيسبة بن كلثوم، تم بناء المسجد علي مساحة 13 ألفا و200 متر، ويسع لنحو 35 ألف مصلٍ، وبه أربعة محاريب وثلاثة منابر ومئذنتان، و12 بابا، وتوجد القبة في صحن المسجد مكان بيت المال في العهد القديم، أما دكة المبلِّغ فتوجد خلف منبر مراد بك، وأما دورات المياه فتوجد بجوار المسجد، وبه حاليا كل الإمكانات لتوفير الرعاية للزوار الذين يأتون من بقاع الأرض، كما يوجد به تحفيظ القرآن الكريم وإلقاء للدروس الدينية من المغرب للعشاء يوميا، وكذلك توجد بالمسجد لجنة زكاة تغطي احتياجات نحو 2000 أسرة يوميا من الفقراء والمساكين. ويضيف قائلا: "شهد المسجد علماء أجلاء قاموا بالتدريس فيه علي مر العصور؛ أولهم الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص وعقبة بن عامر وتميم الداري ومن التابعين زيد بن حبيب النوبي ومن الفقهاء الليث بن سعد، والإمام الشافعي، وتلاميذه، وكذلك العلماء عبد الله بن وهب وعبد الله بن عبد الحكم، وبذلك كان جامع عمرو أزهرا قبل الأزهر فهو أول جامعة إسلامية ليس في مصر فقط بل في القارة الأفريقية كلها".