عندما أخذت في قراءة كتاب (صفحات هادئة من الأدب والتاريخ) للدكتور محمد رجب البيومي، توقفت عند حديثه عن المؤرخ الشهير الجبرتي، وكيف أنه كتب عن ثلاثة عهود.. عهد المماليك والفرنسيين ومحمد علي باشا، وأنه تحدث عن فظائع المماليك رغم أنه كان صديقا لعلي بك الكبير، كما تحدث عن إيجابيات وسلبيات الحكم الفرنسي، وفي نفس الوقت تحدث بشجاعة عما كان يجري من ظلم في عهد محمد علي باشا، فقد قال مثلا عن إبراهيم باشا : ثم سافر إلي الصعيد ليتم ما بقي لأهله من العذاب الشديد، فقد فعل بهم فعل التتار عندما جالوا الأقطار، وأذل عزة أهلها، وليس هذا ببعيد علي شاب جاهل دون العشرين عاما، وحضر من بلده، ولم ير غير ماهو فيه، لم يؤدبه مؤدب، ولايعرف شريعة ولا مأثورات ولا منهيات«. ولم يكن من الطبيعي أن يرضي محمد علي عن هذا الذي يسلط الأضواء علي سلبيات حكمه، فأمر بقتله وأعطي لصهره محمد بك الدفتردار الأمر بالقيام بهذه المهمة.. وهناك من يقول إنه قتل ابنه خليل في طريق شبرا حتي يفجع فيه والده ، وقيل بل إن الأمر كان بقتل الجبرتي نفسه، فلقي مصرعه شهيدا محتسبا كفاء صراحته وشجاعته الأبية الممتازة وتتفق الروايتان معا علي أن منزل المؤرخ الكبير قد أحرق عقب مماته لتأكل النار مابه من أوراق وتسجيلات! وقد استوقفني ماجاء علي لسان المؤلف عن قسوة صهر محمد علي (محمد بك الدفتردار) وطغيانه وقد سجل له الجبرتي ما تقشعر له الأبدان، ومن سجل فظائعه أنه ذبح ناظر إحدي الضيعات في الصعيد، ثم فرق لحمه للناس ليأكلوه مضطرين ، وحصل منهم ثمن اللحم في فظاظة لايعرفها التاريخ..! ورجل مثل هذا وله مثل هذا القلب الذي لايشعر بالرحمة لايمكن أن يترك الجبرتي حيا يرزق ليشعر لهيب الحسرة علي نجل فقيد.. والإنسان يتعجب من جبروت هذا الدفتردار الذي يبيع اللحم الآدمي ويقبض ثمنه من الناس، هل هناك طغيان يفوق هذا الطغيان!! ويري باحثنا أن الجبرتي رغم أنه لم ينهج نهج ابن خلدون في مقدمته، لأن ابن خلدون كان فريدا في عبقريته،إلا أن ماقام به الجبرتي يجب أن نقبله علي علاته فالرجل قتل لأنه سجل الوقائع التاريخية التي عاصرها بموضوعية بعيدا عن النفاق.
