"رأيت حاضرة الدنيا، وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذر من البشر، وإيوان الإسلام...ومررت في سكك المدينة تغص بزحام المارة، وأسواقها تزخر بالنعم... من لم يرها لم يعرف عزّ الإسلام"، هكذا قال ابن خلدون عندما رأي مدينة القاهرة لأول مرة وتجول في شوارعها خاصة شارع المعزّ منذ أكثر من 600 سنة، لايمكن للمتجول في شارع المعزّ في ليالي رمضان إلا استعادة نفس حالة ابن خلدون، فالشارع الذي يضم أعظم الآثار الإسلامية يشهد توافد آلاف المواطنين يومياً وخصوصاً في المناسبات مثل الأعياد، لكن الحشود الضخمة تصحب معها الكثير من الانتهاكات للآثار الإسلامية النادرة. رغم أن شارع المعزّ توافد عليه الآلاف طوال ليالي شهر رمضان الماضي، إلا أن للأمر سلبياته، فالتعامل البشري مع الآثار أحيانا لا يكون علي المستوي المطلوب، بل إن الكثير من السلوكيات السيئة تسللت إلي الشارع في غفلة من الجميع، كاستمرار ظاهرة اقتحام السيارات للشارع، واستخدام بعض أصحاب المقاهي لحرم الآثار كملحق للمقاهي، فضلا عن استخدام الألعاب النارية بكثافة بجوار المساجد الأثرية دون رقيب، لذلك قررت وصديقي المصور حسام المناديلي أن نعلو علي القبح ونحتفظ للآثار ببعض وقارها، احتفظنا بالصور التي نريدها لشارع المعزّ كما ينبغي أن يكون لا كما هو كائن بالفعل. بحثنا في الصور التي التقطها المناديلي بعين فنان عن جماليات الشارع التي تعرض نفسها في وقار يليق بفنون الزمان الماضي، استبعدنا الكثير من التعديات وانتظرنا لحظات هدوء اختلسناها من أجل أن يعود للأثر رونقه، بعيدا عن الزحام وتدخلات البشر، فكانت الصور عنوانا لما نريد لشارع يفترض أن يكون جوهرة الآثار الإسلامية في العالم كله، لكن الإهمال وغياب مفتشي الآثار وتعامل رواد الشارع ببعض الاستهتار مع الآثار كلها تهدد بفوضي لن يدفع ثمنها إلا الآثار التي تبلغ مئات الأعوام. بدأنا الجولة نستعيد عبق الماضي وذكريات العظمة الموالية، شارع المعزّ الذي يبلغ من العمر نحو ألف سنة منذ أن وضع جوهر الصقلي اللبنات الأولي لعاصمة الفاطميين سنة 358ه/ 969م والتي أضاف إليها خلفاء الفاطميين وسلاطين الأيوبيين والمماليك الكثير من المعالم الأثرية التي عدت من التحف الإسلامية الأكثر روعة علي مستوي العالم. التجوال في الشارع التاريخي يبدأ من جهة شارع الأزهر تبدأ الجولة بالدخول في أجواء العطارين ثم حي الصاغة، علي يسار الماشي تجد مدرسة السلطان الأشرف برسباي، بمئذنتها الرشيقة، غير بعيد علي جهة اليمين مدخل حي خان الخليلي بمنتجاته الشهيرة. في الخان ستجد المئات من محبي الشيشة، لا يهتم البعض بأثر الأدخنة علي المباني الأثرية المحيطة، الأهم لحظات مسروقة من عمر الزمن للعودة إلي ماض بعيد، الأخطر وجود العديد من الورش في المنطقة، منتشرة في أزقة ضيقة، أي حريق فيها قد يشطب تاريخ هذه المنطقة في لحظة، كان هناك مشروع لنقل هذه الورش لم ينفذ حتي الآن، لذلك لم ينفذ قرار منع دخول السيارات إلي الشارع، فهي تتجول فيه طوال الوقت دون رادع. إذا توجهت إلي منتصف الشارع ستجد بقايا المدرسة الصالحية لصاحبها السلطان الأيوبي نجم الدين أيوب، لن تجد الوقت لتنشغل كثيرا بها، فغير بعيد عنها ستجد أهم آثار الشارع جوهرته الحقيقية، مجموعة قلاوون الأثرية، في مواجهة شارع بيت القاضي حيث ولد نجيب محفوظ في عام 1911. تمشي بضع خطوات لتجد في مواجهتك سبيل عبدالرحمن كتخدا، والذي يعود إلي العصر العثماني، وهو من أجمل أسبلة القاهرة التاريخية علي الإطلاق. المنطقة التي تقع فيها مجموعة قلاوون معروفة ب"بين القصرين"، وهي الأكثر ازدحاما بالبشر تشهد تواجدا لأصحاب المقاهي الذين لا يتورعون في اقتحام حرم المساجد والمدارس الإسلامية التاريخية لاستقبال الزبائن، وهو ما يتكرر أمام مسجد الحاكم بأمر الله، في مشهد يسيء للأثر