هذا فيلم لاعلاقة له بحروب الكواكب والفضاء ولا بالخيال العلمي، ولاقضايا الفساد، ولا علاقات الحب التقليدية، ولاجرائم ولاكوارث الطبيعة، ولا أي من الموضوعات التي يمكن أن نعتبرها من عوامل الجذب التي تستخدمها السينما للجذب الجماهيري، ومع ذلك فهو من الأفلام الممتعة للغاية، التي تسحبك إلي عالمها لتعيش مع شخوصها وأجوائها وتفاصيلها، ورائحتها أيضاً!! نعم للفيلم رائحة توابل خاصة، فمعظم أحداثه تدور في المطبخ!! الطعام مثير للذكريات، تلك واحدة من الجمل المأثورة التي يرددها كاظم الأب الهندي، الذي فر مع عائلته بعد أن عاني في بلاده من معارك طائفية واستقر في جنوبفرنسا، وقرر أن يفتتح مطعما يقدم فيه الأكلات الهندية التي تعتمد علي تركيبات من التوابل الخاصة، يعتبرها جزءا من ثروته وأسلحته في معركة الوجود، كاظم رجل في منتصف العمر، مسلم لكنه غير متشدد، يحافظ علي تقاليده الشرقية بلا تزيد، ولكنه لا يفرط أبدا في أسرار مهنته، فهو وأبناؤه جميعا يعملون في مجال الطهي، وقد ادخر مالاً وفيراً، يسمح له بإقامة مطعم، للمأكولات الهندية، في جنوبفرنسا، ويالها من فكرة ساذجة، أو تبدو كذلك، الفرنسيون شعب ذواقة، يعتبر الطعام لوناً من فنون الحياة، ليس مجرد ملء بطن، أو تلبية لرغبات بيولوجية، إنه فن قائم بذاته، الطعام مثل ممارسة الحب لدي الإنسان الفرنسي، له طقوس وفنون، وقد سيطر المطبخ الفرنسي علي أذواق العالم لعدة قرون، وهم يجلسون علي الموائد أو في المطاعم، ليس لمجرد تناول وجبة، ولكن لتجاذب أطراف الحديث والاستمتاع بالطعام وأسلوب تقديمه، وجملتهم الشهيرة "بون ابيتيت" أو شهية طيبة، يغار منها الشعب الإنجليزي، لأن لغتهم لا تتضمن كلمة لها نفس المعني ونفس التأثير، وقبل ظهور كارثة مطاعم "الجانك فود" أو الوجبات السريعة، التي ابتدعتها العقلية الأمريكية، كان المطبخ الفرنسي هو المسيطر، تماما، ومع ذلك فإن الطعام الهندي، تجد له انتشارا مذهلا داخل منطقة جغرافية، يعيش عليها مايقارب من المليار مواطن، وفي الهند كما في فرنسا، هناك انحياز تام لوسيلة الطهي، ويعتبرونه جزءا من الهوية وتراثاً لابد من الحفاظ عليه! قل لي ماذا تأكل، وكيف أقول لك من أنت، ومن أي مجتمع أتيت، فطريقة تناول الطعام جزء هام من ثقافة الشعوب، وكما قال أحد الفلاسفة، السيطرة علي الشعوب تأتي من منطقتين، الرأس "الأفكار والفنون والآداب"، والبطن"الطعام"، وإذا فكرت في الحكاية ستجدها صحيحة ومنطقية جدا، فالأمريكان سيطروا علي عقل العالم من خلال السينما، وسيطروا علي بطون الشعوب وعاداتهم الغذائية من خلال الوجبات السريعة، وسلاسل المطاعم التي انتشرت ، في كافة أرجاء المعمورة، إيه علاقة ده بفيلم "رحلة المائة قدم"، سوف تدرك إذا شاهدت الفيلم، إن هو ده الموضوع، صراع الثقافات من خلال التنافس المذهل علي بطون الناس! وأمزجتهم في تناول الطعام! ممكن أن تقطع مسافة ضخمة، من مكان لآخر حتي تتناول وجبة اعتدت عليها، لايقدمها إلا مطعم بعينه، حتي لو كانت مجرد "طبق كشري"، كثير من الناس ربما الأرقي، لايعتبرون الأكل مجرد فعل لسد فراغ المعدة وتجنب الجوع، ولكنه إحدي متع الحياة، ويجب أن تؤديها علي أكمل وجه، وهذا لا علاقة له بالكمية التي يتناولها، الفرنسيون يتناولون كميات قليلة من الطعام، ولكن المهم أن تكون ذات نكهة مميزة وطريقة خاصة في الطهي، أما عن ارتباط الطعام بالذاكرة والذكريات، فكم مرة اشتقت إلي أكل الحاجة، واستعدت رائحة" طبيخها وتلك الوجبات الممتعة التي كانت تقدمها وتلتف حولها العائلة، كم مرة حاصرت تفكيرك تلك الذكريات الجميلة المرتبطة بوجبة ما تناولتها في أجواء ما، مع أشخاص لهم مكانة في قلبك؟ ومع ذلك فإن فيلم "رحلة المائة قدم" لايخلو من مشاعر رومانسية غاية في الرقي والروعة. عندما قرر كاظم المواطن الهندي، أن يفتتح مطعما يقدم فيه المأكولات الهندية في إحدي مدن دنوب فرنسا، لم يدر بخلده أنه سوف يواجه خصماً لدودا، وعنيدا، هو مدام "كالوري" وتلعب دورها المذهلة "هيلين ميلين" وهي تمتلك مطعما أنيقا، يقدم الوجبات الفرنسية الكلاسيكية، وتضم لمطبخها أمهر الطهاة، وأكثرهم كفاءة، وتميزا، وتخضعهم لعدة امتحانات قاسية، قبل أن تسمح لهم بالعمل لديها، مطعم مدام "كالوري" يقع علي بعد مائة قدم فقط من مطعم، السيد كاظم الهندي، وبخبرتها في اكتشاف المواهب، تدرك مدام كالوري، أن خصمها كاظم يمتلك كنزا، يدرك قيمته ويلعب به بشكل جيد، وهو ابنه "حسن" أو الممثل الشاب "مانيس دايال"، حسن له قدرة جهنمية علي عمل خلطات سرية من التوابل، واختراع وسائل مختلفة في طرق الطهي وتقديم الطعام، وقد تعلم سريعا وسائل إعداد الوجبات والمخبوزات الفرنسية، وأجادها وأضاف إليها، أن وجود حسن في مطعم بومباي هو أحد الكوارث التي تواجهها مدام كالوري، ولذلك فهي تقرر اقتناصه وضمه إلي مطعمها بأي وسيلة، حتي تضمن تفوق مطبخها وحصولها علي نجمة جديدة، لاتمنح إلا للمطاعم الراقية فقط! ورغم اختلاف الثقافة، ونمط الحياة والتاريخ والجغرافيا، ورغم أن كاظم ومدام كالوري بينهما ما صنع الحداد ولايكفان عن لعبة القط والفأر في اصطياد الزبائن، إلا أن عاطفة ما تنشأ بينهما، وتجعلها رغم غرورها وصلفها واعتدادها بتركيبتها الاجتماعة إلا أنها تقرر أن تقطع مسافة المائة قدم التي تفصل بين مطعمها الفرنسي الراقي ومطعم كاظم الهندي! الفيلم يشارك في إنتاجه كل من المخرج الكبير ستيفين سبيلبيرج، والمذيعة الأمريكية الأشهر أوبرا وينفري، وضع الموسيقي التصويرية «أ.إتش.رحمن»، الذي تألقت موسيقاه مع فيلمي مليونير العشوائيات، و127 ساعة، أما المخرج فهو السويدي "لاس هالستروم "الذي أبدع أفلام شيكولاته، قواعد بيت السيدر، وهاتشيكو "قصة كلب"، ولو كنت قد شاهدتها جميعا، أو بعضها فلابد أنك لاحظت قدرته العظيمة علي خلق أجواء من الرومانسية والمشاعر الجياشة، والشجن الذي يتسلل إلي الروح فيسكنها للأبد!