في صباح يوم بارد وفي ساعة الذروة وقف رجل في إحدي محطات المترو في العاصمة الأمريكيةواشنطن، مرتدياً ملابس لاعب بيسبول وقبعته، وبدأ بعزف ست مقطوعات من موسيقي يوهان سباستيان باخ. امتد العزف لقرابة ثلاثة أرباع الساعة، بينما مر أكثر من ألف شخص، معظمهم في طريقهم للعمل. بعد ثلاث دقائق من بدء العزف، أبطأ رجل في سيره ثم توقف لبضع ثوان ليستمع للموسيقي ثم أسرع في طريقه، بعدها بدقيقة تلقي عازف الكمان الدولار الأول من امرأة ألقت إليه بالمال دون أن تتوقف وواصلت السير. طفل صغير دون الخامسة هو من أظهر قدراً أكبر من الاهتمام، توقف لإلقاء نظرة علي عازف الكمان، جذبته والدته تحثه علي السير فواصل المشي، ملتفتاً برأسه طوال الوقت، وتكرر هذا الأمر مع العديد من الأطفال، حيث حاول جميعهم دون استثناء التوقف والاستماع فقد شدتهم الموسيقي، بينما ذووهم يجبرونهم علي مواصلة المسير. عندما أنهي العزف لم يلاحظ ذلك أحد، ولم يصفق له أحد. لا أحد كان يعلم أن عازف الكمان هذا هو »جوشوا بيل»، أحد أشهر الموسيقيين في العالم، والحائز علي جائزة جرامي، وأنه عزف مجموعة من المقطوعات الموسيقية الأكثر تعقيداً، وهو يعزف علي كمان قيمته 3.5 مليون دولار، وقبل يومين من عزفه في مترو الأنفاق، بيعت التذكرة لحفلته في أحد مسارح بوسطن بمائة دولار، بينما خلال هذه التجربة تلقي 37 دولاراً من ستة أشخاص فقط، منها 20 دولاراً من سيدة واحدة هي التي استطاعت التعرف عليه. لم يكن جوشوا بيل يفعل ذلك محض مصادفة، وإنما في تجربة مثيرة رتبتها معه جريدة »الواشنطون بوست» منذ قرابة عامين في دراسة اجتماعية عن تعقيدات الحياة الحديثة وأولويات البشر وسرعة إيقاع العصر واهتمام الناس بالجري وراء أعمالهم وطموحاتهم ومدي تأثير ذلك علي إدراكهم لقيم الجمال من حولهم، ثم تحولت هذه التجربة إلي فيلم وثائقي. في الفيلم الوثائقي عُرضت تجربة الفنان جوشوا بيل، وتجارب موسيقيين مغمورين، عاشوا في الشوارع لسنوات طويلة وهم يقدمون فنونهم للعابرين. ومما قاله الفنان جوشوا بيل في الفيلم الوثائقي، إن التجربة التي خاضها في مترو الأنفاق كانت مفاجئة له وغير مرضية، وتساءل هل لم يتلق الاهتمام الذي يستحقه أو الذي اعتاد عليه لأن سياق تقديم الفن تغير؟. وهنا تطرح التجربة والفيلم عدة أسئلة منها: هل يمكننا أن ندرك الجمال في جو غير مناسب وساعة غير مناسبة؟ ثم هل نتوقف لنقدره؟ وهل من الممكن أن نتعرف علي الموهبة في سياق غير متوقع؟ وهل طبيعة السياق المرافق للفن تؤثر في قيمته؟ ثم هل كان للمكان والزمان إيحاء للمتلقي بقيمة الفن؟ حيث لا يستطيع المتلقي أن ينظر للفن نظرة نقية، دون تأثيرات وإيحاءات مصاحبة لهذا الفن. هل تخضع رؤيتنا للفن لأيديولوجيا معينة؟ ثم إذا لم يكن لدينا لحظة لنتوقف ونستمع لواحد من أفضل الموسيقيين في العالم يعزف أفضل موسيقي كُتبت لآلة الكمان، فكم من الأشياء حولنا أثناء مسيرة الحياة تفوتنا ونحن غير قادرين علي الاستمتاع بها؟ وكم تغرنا أحياناً المظاهر، فَنُقدِر أشياء ونعتبرها جميلة، ونهمل غيرها ولا نراها كذلك رغم أحقيتها بالاهتمام والإدراك والمتابعة. المفارقة في هذه التجربة »الدراسة» هي أن الأطفال وحدهم كانوا بفطرتهم النقية أكثر قدرة علي إدراك الجمال في الفن والإصرار علي متابعته لولا قيود المجتمع ورغبات أولي الأمر ومشغولياتهم، فالأطفال بطبيعتهم خارج عوامل الأيديولوجيا وضغوط الوقت الحاكمة، وربما حب الاستطلاع كان هو الدافع وراء اهتمام الأطفال. ولعلي لا أكون مغالياً إذا قلت إن طبيعة العصر المتسارع الإيقاع المتزايدة معه متطلبات الحياة العملية تدفعنا جميعاً نحن البشر لا فرق بين شرق وغرب للتركيز علي النافع دون الجميل الذي غيبناه عن عالمنا مع ما يمكن أن يضيفه لحياتنا، غير عابئين أننا بذلك قد خالفنا ناموس الكون الذي أبدعه سبحانه ووضع للجمال فيه حيزاً لا ينبغي تجاوزه والافتئات عليه، فاستحالت حياتنا جافة صعبة معقدة، رحنا نشكو منها ومن متاعبها بينما نحن السبب فيما آلت إليه من مشقة ومكابدة وتعب. ولأن الصنعة غلابة، فتقديري العلمي أن من صمم التجربة وقع في خطأ منهجي باختياره ساعة الذروة الصباحية حيث مواعيد العمل الضاغطة والمدارس، بينما لو اختار ساعة العودة من العمل لكانت نتائج التجربة أكثر تعبيراً وموضوعية. عموماً لقد عقدت الواشنطون بوست تجربتها مع جوشوا بيل ذات صباح يوم بارد، وما أكثر الصباحات الباردة في أيامنا وحياتنا الباردة.