فى عالم يُفترض أن تحكمه القوانين والأعراف الدولية، يظهر الرئيس الأمريكى دونالد ترامب كصاحب الكلمة العليا، لا يعترف بإرادة الشعوب، ولا يُعير سيادة الدول أدنى اهتمام، طالما كان هناك ما يطمع فيه. اليوم، يقف أمام فنزويلا ملوّحًا بالحرب، ويمنح رئيسها نيكولاس مادورو مهلة «أخيرة» للمغادرة، وكأنه يُدير مزادًا سياسيًا لا دولة ذات سيادة ،فى مفارقة صارخة، يُعلن ترامب الإفراج عن رئيس هندوراس السابق المتهم بتهريب المخدرات والتى بلغت 400 طن من الكوكايين، مؤكدًا أنه كان ضحية لظلم إدارة بايدن، بينما يستخدم الحجة ذاتها (تهريب المخدرات) ليُحاصر شعب فنزويلا ويُهدده بالدمار. اقرأ أيضًا | ترامب يعقد لقاء ثلاثيا مع رئيس وزراء كندا ورئيسة المكسيك ما بين التناقض والجبروت، يبدو أن ترامب لا يرى فى الشعوب سوى عوائق مؤقتة أمام طموحاته، ولا فى القانون الدولى سوى ورقة قابلة للتمزيق متى أراد. إنها ليست فقط قصة تهديد لفنزويلا، بل مشهد مكرّر لغرور رجل يظن أن العالم مزرعة خاصة أن عدالة القوة تُغنى عن قوة العدالة. يوم الجمعة الماضية، انقضت المهلة التى منحها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب لنيكولاس مادورو رئيس فنزويلا لمغادرة بلاده، دون أن يستجيب مادورو، لتدخل العلاقات بين البلدين فصلاً جديدًا من المواجهة. بعد رفض مادورو المغادرة وإصراره على البقاء فى الحكم، اعتبرت واشنطن أن «خيار الحوار انتهى»، وأعلنت إغلاق المجال الجوى الفنزويلى بالكامل. وفى تطوّر سريع، كشفت مصادر أمريكية أن إدارة ترامب أطلقت «مرحلة جديدة من العمليات» ضد النظام الفنزويلى تشمل ضربات محتملة سواء عسكرية أو استخبارتية لتفكيك ما تسمّيه «كارتلات المخدرات» التابعة للسلطة. لم يقف البرلمان الفنزويلى مكتوف الأيدى ولم يشأ أن يترك الرئيس الفنزويلى نيكولاس مادورو يواجه ترامب بمفرده، فقام بتشكيل لجنة تحقيق خاصة فى الضربات البحرية التى شنتها القوات الأمريكية، واعتبرها انتهاكًا صارخًا للسيادة. الرئيس مادورو الذى ظهر أكثر من مرة مستعرضًا قوته السياسية والعسكرية، رفض الهجرة أو التنحّي، معلنًا أن فنزويلا لن تقبل سلام العبيد أو بيع الوطن. أما الحكومة الفنزويلية فقد أطلقت تحذيرات من «مقاومة شعبية» محتملة، كما كشفت وثائق رسمية عن خطة دفاعية تعتمد على حرب عصابات وتمركز وحدات مقاومة فى 280 نقطة داخل البلاد. وبينما تتفوق واشنطن عسكريًا فإن فنزويلا تحاول تحييد هذا التفوق من خلال استراتيجيات المقاومة غير التقليدية مما قد يحول أى تدخل إلى كابوس مكلف. لا يخفى على أى متابع أن الأسواق العالمية النفطية بدأت تسجل ارتباكًا واضحًا، ارتفعت أسعار خام فنزويلا خوفًا من حدوث تعطيل الإنتاج والإمداد النفطى. كما ظهرت عدة دعوات دولية من حلفاء قدامى للفنزويليين ومن مؤسسات أممية لتحذر من نقص حاد فى الغذاء والدواء ناهيك عن توقع حدوث انهيار كبير فى الخدمات الأساسية. أما فى واشنطن، فقد عبر بعض أعضاء الكونجرس -ليسوا فقط من الحزب الديمقراطى المعارض لترامب وسياساته، بل حتى كثير من أعضاء الحزب الجمهورى الذى ينتمى له ترامب- عن رفضهم لحرب بلا تفويض على فنزويلا، وطالبوا بتصويت رسمى قبل أى عمل عسكرى. أما السيناريوهات المحتملة على الساحة خلال الأيام المقبلة فهى إما ضربة عسكرية مباشرة (جوية أو بحرية) قد تخلّ بالنظام فى فنزويلا، مما ينتج عنها فوضى داخلية وهجرة جماعية وخسائر بشرية، وموجة لجوء، وحرب عصابات ومقاومة شعبية مؤلمة مع استمرار مادورو فى الحكم ضمن دوامة عنف واقتصاد محطم واستنزاف طويل، وتكاليف مرتفعة، أو قد ينتج عن الضغط الدولى مفاوضات تحت ضغوط أمريكية ربما تنجح فى إقناع واشنطن بترك مادورو بشرط تقديم تنازلات، أو تسليم السلطة والتنحي. مخاطر الحرب المفتوحة تتمثل فى أن أى تدخل عسكرى أمريكى قد يترتب عليه انتهاكات لحقوق الإنسان، واتهامات بخرق السيادة وميثاق الأممالمتحدة. فالتدخل سواء البرى أو البحرى على فنزويلا يعنى حربًا مفتوحة فى منطقة الكاريبى وقد تمتد إلى دول مجاورة مثل كولومبيا، البرازيل، وجويانا. أم الكارثة الإنسانية فستكون هى الأسوأ منذ عقود حيث نقص فى الغذاء والأدوية، والنزوح الداخلى والخارجى، وانهيار البنية التحتية، وعودة السوق السوداء للعملة. البعض يتوقع فى النهاية أن تختار واشنطن الضغط السياسى بدل الحرب مع استمرار الضغوط الاقتصادية والعقوبات، واستخدام الحصار السياسى والدبلوماسى مما قد يؤدى إلى استسلام مادورو أو انقلاب حزبه ضده وخلعه لتكون عملية داخلية تحافظ لواشنطن ولو على قليل من ماء الوجه. أيضا ربما تسعى الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى شراء الوقت والسعى إلى تغيير النظام تدريجياً، من خلال تهجير النخب، والاستنزاف الاقتصادي، وإضعاف السيطرة الداخلية. صحيفة نيويورك تايمز من جانبها رأت فى تحليل لها أن التوجه الأمريكى يمثل انقلابا فى السياسة الأمريكية حيث لم يعد الهدف تعزيز الديمقراطية أو دعم التنمية، بل فرض الهيمنة والمكاسب الجيوسياسية بشكل لا غبار عليه. ولعل تصريح الرئيس ترامب عند لقائه الرئيس الأرجنتينى مؤخرًا فى البيت الأبيض خير دليل على ذلك، حيث حاول الرئيس الأرجنتينى الحصول على قرض يمنح بلاده الغارقة فى الديون جرعة أوكسجين، فما كان من الرئيس ترامب إلا أن ساومه على الهواء، ووعده بقرض 20 مليار دولار لو صوت الشعب الأرجنتينى لحزب الرئيس فى انتخابات العاصمة ورغم استجابتهم تراجعت البنوك الأمريكية عن الاتفاق. لذا يرى منتقدو الرئيس ترامب أن التهديدات الأخيرة للنظام الفنزويلى ولرئيسه تحديدًا، تهدف بالأساس إلى سحب بساط الهيمنة على ثروات البلاد منهم، واستعادة الولاياتالمتحدة حق الاستفادة منها، كما كانت الأمور تُدار قبل وصول الزعيم الراحل شافيز إلى الحكم فى 1999 وتأميمه القطاعات الإستراتيجية مثل النفط والكهرباء والاتصالات والمصارف، وغيرها فى 2001 وكلها أطماع قد تبدو مفضوحة إذا أخذنا بعين الاعتبار تصدر فنزويلا قائمة أكبر احتياطى نفطى فى العالم ب300 مليار برميل. نستطيع فى النهاية أن نقول إن المهلة قد انتهت، لكن لن تنتهى القصة بهذه البساطة. ففنزويلا اليوم على مفترق بين خيار استدراج نحو الحرب أو مخاض سياسى عسير، وفى كلتا الحالتين، سيكون الدم والدمار حاضرين. ولو اختارت واشنطن طريق القوة، فإن ما ينتظر العالم لن يكون مجرد انقلاب سياسي، بل كارثة إنسانية وإقليمية. وإذا فضلت الضغط الاقتصادى والسياسي، فلا يزال الأمل قائماً فى تحول ملتبس، لكنها فى كل الأحوال ستكون معركة صبر واستنزاف طويل المدى.