تجربة السفر إلى السنغال للمرة الأولى لم تكن كغيرها من الدول الكثيرة التي وطأتها قدماي، كانت اكتشاف لقلب القرن الأفريقي ومرتكزه الأساسي، فلا يوجد رحلات طيران مباشرة مما يجعلها مرهقة قد تستغرق يوما أو أكثر، وبالتأكيد تستحق السنغال ذلك العناء الذي ربما لا تشعر به إذا كانت وجهتك أمريكا أو جنوب أفريقيا. في رحلتي إلى السنغال امتزجت مشاعري بين بساطة الواقع وتعقيداته اليومية، تحت شمس نوفمبر التي ترتفع عشر درجات أو يزيد عن مصر مع نسبة رطوبة تشعرك أكثر بالحرارة عن مصر، كانت الليلة الأولى في العاصمة داكار لم أتمكن طوال الساعة التي قضيتها في السيارة إلى فندق فيلا 126 الصغير النظيف الأشبه ب"بنسيون" من رؤية المدينة. استلمت غرفتي للمبيت حتى الصباح ومواصلة الرحلة إلى إقليم كازامانس عبر طيران داخلي، جذبتني تلك "الناموسية" التي تحتضن سريري والتي لم يسبق لي مشاهدتها إلا في الأفلام المصرية القديمة، كم كانت بديعة مع بساطة في كل شيء ونظافة جعلتني أنام فور توجهي للسرير، وفي الصباح توجهت لتناول فطوري في بهو الفندق بجوار الببغاء الرائعة والتي تتحدث السنغالية والفرنسية تلك المشكلة التي لازمتني طوال فترة إقامتي في السنغال، فهي دولة فرانكفونية بامتياز استعنت خلالها بمترجمي الإليكتروني، مثلما شاهدت الجميع يستعملونه معي للترجمة من الفرنسية إلى الإنجليزية، بين ردهات الفندق، كان الصمت شاهداً على حياة هادئة وجيراني الأجانب يتجولون حفاة لتناول فطورهم. في صباح العاصمة، من داخل السيارة، أستمتع بنبض الحياة التي تتفاوت بين الأحياء الراقية والأسواق الشعبية، حيث ألوان الفواكه والخضروات تعزف سيمفونية حية، ونساء يلبسن أزياءً تعكس حريتهن وانتماءهن المتداخل، وكأن قماش أزيائهن يحكي قصص الأرض والإنسان. هذه هي السنغال التي تفتح لك بواباتها لتروي لك عن تعدد الثقافات وثراء الحياة وفساد الأنظمة، تتقاطع بين الماضي والحاضر في لوحة حية لا تشبه أي مكان آخر، وبوصولي إلى المطار مرة أخرى متجهة إلى مطار زيجنشور الصغير، دخلت تجربة مختلفة عن العاصمة حيث الطرق الضيقة المتعرجة غير الممهدة. وعلى الجانبين تكسو الخضرة كل الأرجاء، الطبيعة هنا ترفض الاستسلام لأي جمود، تمتد الحقول بالأرز وأشجار الفاكهة، وتتوج الجبال بحلتها الخضراء الكثيفة، بينما الحياة تسير بهدوء جميل يأسر الألباب.حتى حل الليل حالك الظلمة فلا ضوء ينير الطريق الخطر إلا مصابيح السيارات، هناك، اختلطت الظلال بأصوات الحياة المنبعثة من خلف الأبواب المغلقة للقرى، فالأضواء لا وجود لها إلا نادرا طوال ثلاث ساعات حتي الوصول إلى المدينة، ربما لأن الإضاءة جاذبة للحشرات في وسط القارة السمراء، والتعامل معها يتطلب الاعتياد على الكثير من الأمور. في مهرجان زيجنشور السينمائي الدولي، تنتعش الأجواء بحيوية الفرق الفلكلورية، حيث تلتقي الثقافة بالجمال، والاحتفال بالحياة، النهر والسماء هنا يتناغمان مع ألوان وشغف الناس، فتجديد الروح يكون ملاذًا لكل زائر يتوق لاكتشاف أسرار القارة الإفريقية بعين جديدة، تسمع بخفة الأقدام وتقرأ في تفاصيل الوجوه رسائل الأمل والتحدي، في مساحة تجمع بين قسوة الطبيعة ودفء الإنسان. في الأسواق تجد المنحوتات الخشبية الرائعة تعانق النسيج الساحر، والفاكهة الإستوائية تغنيك عن الحلويات، والأسماك تتنافس على شهيتك فقد جمعت تلك البقعة الخضرء الغناء بين أسماك النهر والمحيط، والتصميمات الأفريقية مبهرة ومتناسقة مع البنيان وطبيعة الأجواء التي كان من حسن ظني أنني لم أتواجد في ذروة حرارتها، لتنقضي أيامي في السنغال عبر مطار بانجول بجامبيا التي استقلت عن إقليم كازامانس، جذبتني اللوحات الإعلانية بالعربية، واستقواء الإنجليزية على الفرنسية رغم تقارب الشعبين اللذين كانا في الأمس القريب واحدا، وأصوات الأذان العالية في كل صلاة في كلا البلدين، مع احترام كامل لكافة العقائد والأديان. كانت رحلتي بين السنغال وجامبيا أكثر من مجرد عبور من مكان لآخر، بل كانت فسيفساء من اللحظات النابضة التي تجمع بين النور والحياة، وتدعو لاكتشاف تأملات الروح، حكايات الأرض التي لا تنتهي، وأصوات تلك الأرض التي تظل تغرد في الذاكرة بغض النظر عن الزمان والمكان، هذه هي السنغال: لوحة من ألوان الحياة المتجددة، تنبض على إيقاع الزمن بشفافية وعذوبة.