وجود مصر فى قلب هذا المشهد، كمنظم ومصنع، يؤكد أنها قررت حجز مقعدها فى نادى الكبار، ليس كمتفرج، ولكن كلاعب وشريك أساسى لم يترك لنا الفراعنة كتابًا واحدًا عن فن الحرب، لأن تاريخهم كله كان كتابًا مفتوحًا فى العسكرية كانت معركة «مجدو» التى قادها تحتمس الثالث قبل 3500 عام، والمسلات الشاهقة التى تجسد مشاهد انتصارات رمسيس الثاني، هى «الكتب البيضاء» الأولى التى دونت استراتيجيات الردع والتفوق العسكرى وكانت جدرانها أول معرض لأحدث الأسلحة فى عصرها لقد أدركت مصر القديمة، أن قوة الجيش هى عماد الأمن القومى وأساس بناء الحضارة. وكانت ترسانتها الحربية، من عربات مدرعة تجرها الخيول إلى الأقواس والحربات، هى «التكنولوجيا المتطورة» فى زمانها، تصنعها بنفسها لتؤمن استقلال إرادتها... الحضارة المصرية القديمة آمنت بعبقرية فطرية أن السلام لا يمنح للضعفاء، وأن الاستعداد للحرب هو أعلى درجات السعى للسلام، وهى العقيدة التى جسدتها على جدران المعابد ومواقعها المقدسة، وتطبقها الجمهورية الجديدة اليوم وستتجلى أزهى صورها غدا حيث تتجه أنظار العالم باتجاه القاهرة عند افتتاح النسخة الرابعة من معرض مصر الدولى للصناعات الدفاعية والعسكرية «إيديكس 2025». التحليلات الغربية المتخصصة فى شئون الدفاع، لم تعد تنظر إلى معارض السلاح الدولية بوصفها أسواقًا تجارية لبيع وشراء الأسلحة والمعدات فحسب، بل تصنفها كمنصات تقيس «نبض» القوة فى الدول المختلفة. وغدًا، عندما تفتح مصر أبوابها لوفود من كبرى القوى العسكرية من 50 دولة، فهى لا تعرض سلاحًا فقط، بل تعرض «قدرات كل دولة».. بعيدًا عن عدسات الكاميرات التى تلتقط صور الدبابات ومنصات الصواريخ والمدرعات اللامعة، ستدور بين أروقة العارضين «مواجهات صامتة» و»تحالفات هادئة» الوفود العسكرية التى تجوب المعرض لا تأتى للتنزه.. مهمتها الأولى معاينة ما وصل إليه «الطرف الآخر» أو المنافس المحتمل من تكنولوجيا. بعض الدول تستعرض جزءًا فقط من أسلحتها المتطورة وتكشف عنه عمدًا كرسالة ردع للأعداء المحتملين.. البعض الآخر من الوفود يبحث عما ينقص ترسانته العسكرية ليستكمل نواقصه وآخرون يستهدفون بيع منتجاتهم العسكرية والمنافسة فى سوق يبلغ كعكة الإنفاق العسكرى العالمى فيه حوالى 2.46 تريليون دولار، بزيادة قدرها 7.4٪ عن العام السابق نتيجة تزايد التوترات الأمنية فى العالم.. المعرض كذلك يشهد عقد صفقات تبادلية لا تعتمد على المال فقط، بل على «نقل التكنولوجيا».. مثل مصر التى لم تعد تكتفى بالشراء، بل تفرض معادلة «التصنيع المشترك» كشرط للتعاقد، كما سيظهر جليًا فى هذه النسخة بدمج القطاع المدنى المصرى فى تصنيع قطع غيار الأسلحة والمعدات التى كنا نستورد العديد منها طوال عقود.. اليوم نجحت بعض الشركات المصرية فى تصنيعها بل وأصبح لديها القدرة على المنافسة والتصدير. وقد يتساءل المواطن.. كيف يؤثر معرض مثل «إيديكس» على ترتيب الجيش المصرى عالميًا؟.. الإجابة تكمن فى معايير مؤسسات التصنيف الدولية مثل «جلوبال فاير باور» وغيرها هذه المؤسسات لا تقيم الجيوش بناءً على عدد الجنود فقط، بل تضع وزنًا نسبيًا لمعيار «الاستدامة» و«القدرة التصنيعية».. عندما تنظم دولة معرضًا بحجم «إيديكس»، وتعرض فيه مدرعات وقطعًا بحرية ودبابات ومسيرات «محلية الصنع»، فإنها ترسل رسالة للمقيمين الدوليين تقول «هذا الجيش لا يعتمد كليًا على الاستيراد، ولديه سلاسل إمداد محلية آمنة وقت الأزمات». هذه النقطة تحديدًا هى التى تقفز بتصنيف الجيوش مراكز متقدمة للأمام، لأن الجيش الذى يصنع سلاحه يملك قراره، والأهم من ذلك، يملك القدرة على خوض معارك طويلة الأمد دون انتظار «إذن» من الموردين بالخارج.. فى «إيديكس» غدًا، سنرى ترجمة واقعية لمفهوم «الحروب الهجينة». التركيز العالمى لم يعد منصبًا فقط على سمك الدروع، بل على الذكاء الاصطناعي، الأمن السيبراني، والأنظمة غير المأهولة (الدرونز). وجود مصر فى قلب هذا المشهد، كمنظم ومصنع، يؤكد أنها قررت حجز مقعدها فى نادى الكبار، ليس كمتفرج، ولكن كلاعب وشريك أساسي.. إن «إيديكس 2025» ليس مجرد معرض، إنه بيان عملى للدولة المصرية يؤكد للعالم أن السلام فى الشرق الأوسط يحتاج إلى «قوة رشيدة» تحميه، وأن مصر هى تلك القوة.. إن رسالة «إيديكس» مصر للعالم واضحة.. قد تتغير الأدوات من «العجلة الحربية» إلى «المدرعات»، وقد تتبدل التكتيكات، لكن تظل مصر كما كانت دائمًا.. درعًا واقية، وحصنًا منيعًا، وبوصلة للتوازن فى عالم لا يعترف إلا بالأقوياء.