في ليلة هادئة من ليالي طيبة القديمة، حيث تلتف النجوم حول معابد الكرنك مثل حُرّاس من نور، جلس كهنة التحنيط داخل بيت الحياة، يستعدون لطقس جنائزي جديد، كان الصمت يملأ المكان إلا من همسات البخور وصوت أقدام الكهنة على الأرض الحجرية، في وسط القاعة، وُضعت أربعة أوانٍ لامعة من الألباستر، نقية كضوء القمر، تحمل ملامح غريبة: رأس إنسان، رأس قرد، رأس صقر، ورأس ابن آوى. اقترب الكاهن الأكبر، ورفع مصباح الزيت، وقال بصوت عميق: "هذه ليست أوانٍ.. هذه حُراس الأبدية" . ◄ ميلاد الأواني يحكي لنا اليوم عالم المصريات الدكتور مصطفى وزيري، عن أسرار وكأنه يرى المشهد بعينيه، أنه قبل آلاف السنين اعتقد المصري القديم أن الإنسان لا يموت.. بل ينتقل، وأن جسده هو سفينة الرحلة، وأن الأعضاء الداخلية هي كنوزه التي لا بد أن ترافقه للبعث، ولذلك، صُنعت الأواني الكانوبية، ليس كأوعية فحسب، بل كقلوب صامتة تحفظ حياة صاحبها حتى يستيقظ من نومه الأبدي. في ورش الحرفيين، كان الألباستر يُنحت كأنه قطعة من الشمس المتجمدة، كل إناءٍ يُصقل بحنان، وكل وجه يُنحت بدقة، وكأن فنانًا يعرف أن ما بين يديه ليس حجرًا.. بل حارسًا لروح إنسان. ◄ أبناء حورس الأربعة يُقال إن الأواني ليست مجرد أوانٍ، بل أربع شخصيات مقدسة: 1- إمحوت ذو رأس الإنسان، حارس الكبد. 2- حابي ذو رأس القرد، يحمي الرئتين. 3- دوا موت إف برأس ابن آوى، يحمي المعدة. 4- قبح سنوف برأس الصقر، حارس الأمعاء. كان كل واحد منهم يقف أمام المتوفى في عالم الآخرة، يقدّم له عضوًا من أعضائه كي يعود كاملًا كما كان في الدنيا. ولذلك زُوّج كل إناء بإلهة حارسة: إيزيس، نفتيس، سرقت.. كأن هناك جيشًا من الضوء لحماية جسد واحد. ◄ ليلة التحنيط تبدأ الليلة التي تنتظرها الروح منذ أن فارقت الجسد، يحمل الكهنة أدوات التحنيط، وبجانبهم تقف الأواني الأربعة تنتظر دورها، يُفتح الجسد بحرص شديد، وتُغسل الأعضاء بالنبيذ والزيوت المقدسة، وتُحنط وتُلف بضمادات كتانية ناعمة كنسيم النيل، ثم، واحدًا تلو الآخر، تُوضع الأعضاء داخل أحضان أبناء حورس. تغلق الأغطية الحجرية بإحكام، ويُقرأ عليها دعاء: "احمِ ما أودع لديك.. حتى يعود صاحبه للحياة من جديد"، ومع كل إناء يُغلق، يدرك الكهنة أنهم لا يحفظون عضوًا فقط بل يحفظون فرصةً للخلود. ◄ الأواني تحكي مرت آلاف السنين، وبقيت الأواني الكانوبية في ظلام المقبرة، بجوار التابوت وأدوات المتوفى، سمع الكثيرون عنها، لكن قليلين فهموا قيمتها. وفي أحد أيام القرن الحديث، دخل فريق من علماء المصريات إلى المقبرة، يتقدمهم الدكتور مصطفى وزيري. رفع أحدهم مصباحه، ولمع وجه صقر من الألباستر في الظلام. قال وزيري مبتسمًا: "هذه ليست مجرد قطعة أثرية.. هذه شهادة على عبقرية المصري القديم" . وعندما فُحصت الأواني، وجدوا نقوشًا دقيقة تحمل اسم المتوفى وألقابه، دعوات للحماية، وصلوات للبعث، كانت الأواني ككتب مقدسة، كتبت بلغة لم تعد تُستخدم لكنها لا تزال تُقرأ. ◄ عبقرية لا تموت كيف استطاع الفراعنة أن يصنعوا نظامًا بهذه الدقة؟ كيف عرفوا قيمة كل عضو؟ وكيف ربطوا كل جزء من الجسد بإله معيّن؟ كانت تلك الأسئلة تدور في أذهان العلماء. لكن الإجابة كانت دائمًا واحدة: لأنهم كانوا يفكرون في الأبدية، لا في الحياة فقط. لم يخافوا الموت، فقد رأوه بابًا لرحلة أخرى، ولم يتركوا شيئًا للصدفة، كل عضو له مكان، وكل دعاء له معنى، وكل إناء له روح. الأواني الكانوبية كانت جزءًا من منظومة كاملة: – فن – طب – دين – كيمياء – فلسفة – وإيمان عميق بالبعث، ولهذا وصلت إلينا كما هي.. جميلة، صامدة، تحمل أسرارًا لا تشيب. ◄ حين يتحدث الحجر اليوم، عندما تراها خلف زجاج المتحف، تبدو كأنها أحجار منحوتة، لكن الحقيقة أن كل إناء منها يحمل نبض إنسان عاش قبل آلاف السنين، وانتظر أن يعود كما كان، وفي صمتها، تحكي لنا حكاية حضارة لم تُخلق لتختفي.. بل لتبقى، تلك هي حكاية الأواني الكانوبية، حكاية الإنسان الذي أراد أن يهزم الزمن.. فكتب خلوده داخل حجر.