ثلاثة اختيارات يطرحها عليك الرد الآلى حينما تهاتف متحف فرانز كافكا فى براغ؛ ثالثها هو حجز مقابلة شخصية مع كافكا. تلك المقابلة هى – غالبًا – الرحلة التى اصطحبنا فيها فيلم «Franz» المشارك فى القسم الرسمى خارج المسابقة من الدورة السادسة والأربعين لمهرجان القاهرة السينمائى الدولى، من تأليف مارك إبستاين وإخراج أجنيسكا هولاند. يتناول الفيلم حياة الكاتب التشيكى فرانز كافكا، من صباه وحتى وفاته عام 1924 عن عمر 41 عامًا، مستعرضًا نشأته فى كنف أب صارم، وعمله فى وظيفة روتينية بشركة تأمين، ورغبته العميقة فى الكتابة والتعبير عن ذاته، أو التمرد كما يبدو للمحيطين به. هذه الحالة من الصراع بين المأمول والواقع والرغبة؛ جعلته شخصية مترددة، يبحث عن مكانه فى العالم وهو تحت وطأة الحيرة بين الواجب والحرية، وبين الانصياع والتمرد. اتبع المخرج أسلوبًا تجريبيًا فى عرضه لسيرة كافكا، مزج فيه بين ثلاثة خيوط زمنية تتنقل بين الماضى والحاضر؛ الأول يعرض حياته بتسلسلها الزمنى وما تعكسه من تطور وتحولات نفسية، والثانى لأهله والمحيطين به عقب وفاته، بينما الثالث يجول بنا فى أرجاء متحفه والمسارات السياحية والخدمات التى تستخدم اسم كافكا وسيرته ك «مُنتَج» ثقافى، بعد مرور قرن على رحيله، باعتباره «أسطورة عظيمة لم تُحل شفراتها بعد». ماذا يقدِّم متحف كافكا لجمهوره؟ يوجد فى براغ متحف مكرّس بالكامل لفرانز كافكا، يعرض الطبعات الأولى لأعماله، ورسائله، ومخطوطاته، وصوره، ضمن تجربة بصرية وسمعية تفاعلية وتجهيزات صُممت خصيصًا له. تعد زيارة المتحف – اليوم – جزءًا ثابتًا من حزم السياحة الثقافية فى براغ، ويظهر فى مواقع الحجز كواحد من أبرز المعالم، مع توصيفه كمتحف تفاعلى يعرض «تذكارات كافكا وخطاباته الأصلية» ومكانًا لا بد من زيارته لكل محبى الأدب. حسبما يظهر فى «Franz»؛ تمر جولات متحف كافكا - متعددة اللغات - على البيت الصغير فى زقاق الذهب، ومنزل العائلة قرب ساحة البلدة القديمة، وتتوقف فى منتصف الطريق عند مطعم «Kafka Burger» حيث تُروى حكايات طريفة عن «الطبق المفضّل» له، وهو ما لا يتفق إطلاقًا مع السيرة، إذ كان كاتب كافكا نباتيًا. إضافة إلى ذلك؛ يبيع المتحف حقائب قماش تحمل صورته واسمه، وبطاقات بريدية، و«دفتر يوميات سفر» مع ملصقات تذكارية، ويمكن للزائر أن يقيم فى فندق «فرانز كافكا»، وأن يزور معرضًا غامرًا باسم «عالم فرانز كافكا»، وأن يجلس على الشاطئ مثلما كان يفعل الكاتب الأسطورى ليستمتع بأشعة الشمس المنعكسة على وجهه أفقيًا. وفى المدينة؛ نجد تماثيل ومنشآت فنية ضخمة لكافكا، مثل تمثال ياروسلاف رونا السريالى الذى يحمله جسد بلا رأس، وتمثال ديفيد تشيرنى المكوّن من 42 طبقة معدنية دوّارة لرأس كافكا عند مدخل مركز تجارى. ماذا فعلناه بسيرة أديب نوبل؟ لم يعش كافكا أكثر من أربعين عامًا تقريبًا، ونجده قد تحوّل فى الفيلم وفى الواقع إلى أسطورة مكتملة اقتصاديًا وثقافيًا، وهو ما يجعلنا نفكر بشكل عفوى عما فعلناه بسيرة الأديب المصرى والعربى الوحيد الحاصل على جائزة نوبل فى الأدب؛ نجيب محفوظ، والذى عاش بيننا 94 عامًا، وامتدت مسيرته من الحقبة الملكية والاستعمار البريطانى إلى ما بعد 1967 و1973 وحتى وفاته عام 2006. الآن ونحن على أعتاب السنة العشرين لوفاة محفوظ؛ ننظر للوراء فنجده قد تم الاحتفاء به مرارًا وتكرارًا بين الجدران وداخل المنشآت الثقافية، وحين طُرحت فكرة إنشاء متحفه وبدأ العمل عليها؛ تأخّر المشروع إثنى عشر عامًا بسبب صراع بيروقراطى بين وزارة الثقافة ووزارة الآثار حول الموقع، وسوء التخطيط والتمويل لأعمال الترميم، إلى أن تم افتتاحه – أخيرًا – فى يوليو 2019، فى تكية أبو الدهب بحى الأزهر، وبالقرب من منطقة الجمالية التى وُلد فيها محفوظ واستلهم منها عالم «الحارة» فى رواياته. يضم المتحف غرفًا توثِّق مراحل الحياة والكتابة، والجوائز التى نالها محفوظ وعلى رأسها نوبل، ومقتنياته الشخصية مثل المكتب والنظارة والسماعة، والدفاتر التى كتب فيها نصوص «أحلام فترة النقاهة»، إضافة إلى مكتبة ضخمة تضم نحو 1200 كتاب من مكتبته الخاصة، من الأدب المصرى والعربى، والفلسفة، وعناوين عالمية مثل أعمال شكسبير وجيمس جويس وباولو كويلو وغيرها. كما خُصِّصت قاعات لعروض الأفلام المقتبسة عنه، وقاعة للندوات والأرشيف والأنشطة. ماذا أيضًا؟ يفتقر المتحف إلى مواكبة التطور لصنع جولات تفاعليه، وهو أمر يحتاج جهود ودعم مؤسسى؛ فالعرض المتحفى شديد الرسمية والتسجيلات المعروضة لمقاطع من أفلام مقتبسة عن أعمال محفوظ أو مقابلات معه جودتها ضعيفة. ومنذ افتتاح المتحف تقريبًا؛ والحديث يدور حول طابق كامل مهيّأ ليكون مركزًا بحثيًا وثقافيًا، يضم قاعة مؤتمرات ومعملًا للحاسب الآلى ومسرحًا وسينما وغيرها من القاعات، لكنه مغلقًا حتى الآن، ورغم محاولات مديره الحالى، الكاتب الصحفى طارق الطاهر، التغلب على تلك العوائق بإقامة أنشطة مهمة تكسب المتحف حيوية وتجذب الجمهور إليه؛ يعانى من نقص فى غياب لدمجه الحقيقى فى خرائط السياحة الثقافية فى القاهرة، واستثمار إرثه محفوظ السينمائى والأدبى فى برامج حية موجهة للجمهور العام. وفى ذلك يمكننا مثلًا الاستفادة من رسالة الدكتوراه التى أجرتها الباحثة نادية طه عبد الفتاح، حول «التراث المادى واللامادى للقاهرة فى روايات نجيب محفوظ» وتناولت فيها كيف يمكن الترويج للقاهرة كوجهة للسياحة الأدبية من خلال الاستفادة من التراث المادى واللامادى للمدينة الذى رواه نجيب محفوظ فى رواياته، ومقترحاتها حول إنشاء مسارات سياحية لزيارة الأماكن والأحياء التى عاش فيها نجيب محفوظ أو استلهمها فى رواياته، وإصدار تذاكر خاصة باسم نجيب محفوظ لزيارة مجموعة من الأماكن التى وردت فى أعماله، مثل قصر الأمير بشتاك، وحمام السلطان إينال، ومقعد الأمير ماماى السيفى فى ميدان بيت القاضى، وبيت السكرية، ووكالة نفيسة البيضاء، وحمام السكرية. وغيرها من المقترحات. كافكا ليس الوحيد قد يكون فيلم «Franz» هو ما جعلنا نعيد طرح سؤالنا حول سيرة محفوظ وغيره من أدبائه، لكنه ليس الوحيد فى العالم، ففى دبلن – مثلًا – نجد أن جيمس جويس قد تحول وروايته «عوليس» إلى محور احتفالية سنوية هى «يوم بلوم» تقام كل عام فى 16 يونيو، تجمع كتّابًا وفنانين وقرّاء وسياحًا فى برنامج كامل من القراءات والعروض والجولات على أماكن الرواية، وفعاليات الطعام والشراب حتى الإفطار «البلومدى» الشهير، كما يشرح الموقع الرسمى للسياحة الإيرلندية كيف يمكن للزائر أن يأكل ويشرب ويمشى فى دبلن على خطى ليوبولد بلوم (بطل رواية عوليس). وفى ستراتفورد أبون آفون الإنجليزية، تدير مؤسسة مسقط رأس شكسبير؛ مجموعة من البيوت والمواقع المرتبطة بشكسبير: بيت الميلاد، كوخ آن هاثاواى، والمكان الذى قضى فيه سنواته الأخيرة، وبيوت أفراد عائلته، بالإضافة إلى مركز حديث للزوار، وبرامج تعليمية وبحثية. وبيت الميلاد نفسه تحوّل إلى متحف صغير مفتوح للجمهور ومزار سياحى عالمى، مع تذاكر متعددة المواقع، وفعاليات على مدار العام، وإنتاج معرفى وثقافى (معارض، دورات، مواد تعليمية) أصبح معها شكسبير جزءًا من الهوية الوطنية البريطانية، وجزءًا من الاقتصاد المحلى. متى نطلق أسطورتنا؟ الحقيقة أن فيلم «Franz» يمنحنا فرصة لإعادة التفكير حول كيفية صنع سيرة حيّة لنجيب محفوظ وغيره من كتابنا ورموزنا المتفردين، بعيدًا عن التماثيل والصور الرسمية والاحتفالات التقليدية، خاصة فى ظل التطور الهائل الذى تشهده التكنولوجيا حاليًا، وما يمكن أن توفره من فرص عظيمة للتفاعل والاحتفاء الحقيقى، فأسطورتنا موجودة بالفعل ولا تحتاج للصُنع، يكفى أن تتوفر الإرادة والنية الصادقة، والرؤية المتطورة المواكبة، وفرص للطاقات الشابة – الموهوبة حقًا – كى يعملوا خارج الجدران.