ما بين نهر الهان الذى نفض غبار الحرب ليصنع المعجزة، ونهر النيل الذى يحفر فى الصخر ليبنى الجمهورية الجديدة، قاسم مشترك أعظم. لطالما ارتبط مصطلح «معجزة نهر الهان» بالقفزة الاقتصادية الهائلة لكوريا الجنوبية، لكن اليوم، وعلى ضفاف نهر النيل الخالد، تسعى مصر لصياغة معجزتها الخاصة مستندة إلى ثقلها التاريخى وموقعها الاستراتيجى ورغبتها فى الوصول إلى المكانة التى تستحقها الأسبوع الماضى شهدنا زيارة تاريخية للرئيس الكورى الجنوبى «لى جاى ميونج» لتضع حجر الزاوية لشراكة أكبر تتجاوز التبادل التجارى التقليدى إلى تحالف شامل يربط التجربة الكورية بالطموح المصري. لتدشين عهد جديد من التعاون الاستراتيجي. زيارة الرئيس الكورى وهى الأولى له منذ توليه منصبه جاءت لتمثل قفزة نوعية فى مسار هذه العلاقات، لم تكن مجرد زيارة روتينية فى إطار البروتوكول الدبلوماسي، بل كانت إعلانًا صريحًا عن ولادة تحالف استراتيجى يبنى على أسس متينة من المصالح المتبادلة والرؤى المشتركة. لقد أدركت كوريا الجنوبية، تلك القوة الصناعية والتكنولوجية العظمى، أن مصر هى الشريك الإقليمى «الثقيل» الذى لا غنى عنه فى منطقة الشرق الأوسط فمصر، التى أثبتت على مدى الأعوام الماضية أنها قاطرة تنمية حقيقية، بل أصبحت رقمًا صعبًا وفاعلًا رئيسيًا فى معادلة المنطقة. على الصعيد العسكري، لم يعد التعامل بين البلدين مقتصرًا على صفقات بيع وشراء الأسلحة، بل تحول إلى شراكة استراتيجية فى التطوير والتصنيع المشترك. كان آخرها مشروع تصنيع المدفع K9 محليًا وهو ما يفتح الباب أمام خط إنتاج كامل لأنظمة المدفعية والذخائر وتقنيات الحماية الحديثة كوريا، من جانبها، ترى فى مصر قوة نظامية ثابتة ومؤثرة، تستحق الاستثمار والتعاون طويل الأمد، والذى يتجه حاليًا نحو آفاق أكثر تقدمًا. أما على الجانب الاقتصادي، فإن كوريا الجنوبية تعد من بين أكبر الدول ضخًا للاستثمارات حيث توسع شركات السيارات والأجهزة الإلكترونية والصناعات الثقيلة من وجودها فى مصر، إدراكًا منها لقوة السوق المصرى وتميز موقعها الجغرافى الذى يطل على إفريقيا والعالم. بالإضافة إلى التعاون الواسع فى مشروعات الكهرباء والطاقة المتجددة ونقل التكنولوجيا، الذى يحول مصر تدريجيًا من دولة مستهلكة إلى دولة مصنعة وقادرة على تصدير منتجاتها إلى الأسواق الإقليمية والدولية. ومن جامعة القاهرة، أعلن الرئيس لى جاى عن رؤى ومبادرات طموحة، أهمها مبادرة «شاين» لربط معجزة نهر «الهان» بمعجزة نهر النيل. المبادرة تهدف فى المقام الأول لتعزيز السلام والازدهار وتوسيع التبادل الثقافى وتواصل الشعوب. حيث تشير الكلمة إلى الأحرف الأولى من كلمات «الاستقرار والتجانس والابتكار والشبكات والتعليم». المبادرة ستعمل على فتح مستقبل مشرق للشرق الأوسط وشبه الجزيرة الكورية. الشراكة المصرية الكورية، أصبحت نموذجا للتعاون القائم على الاستثمار فى الإنسان وبناء اقتصاد المعرفة. فهى ليست كلمات عابرة، بل هى خطوة عملية فى بناء قوة إقليمية اقتصاديًا وعسكريًا، مستقبلها أكبر مما يتخيله الكثيرون. إنها علاقة تثبت أن العالم يتغير، وأن مصر، بعقلانيتها وثباتها، تسير نحو الاتجاه الصحيح. وما بين نهر الهان الذى نفض غبار الحرب ليصنع المعجزة، ونهر النيل الذى يحفر فى الصخر ليبنى الجمهورية الجديدة، قاسم مشترك أعظم هو «الإرادة». أتذكر حين وطئت قدماى العاصمة الكورية سول قبل عشر سنوات، لمستُ عن قرب جوهر تلك «المعجزة». لم يكن ما رأيته مجرد ناطحات سحاب أو تقنيات متطورة فحسب، بل كانت روحًا من الانضباط الصارم والتفانى فى العمل تسرى فى عروق المجتمع الكوري لقد شاهدت كيف استطاعت أمة خرجت من رماد الحرب أن تتحول إلى نمر آسيوى وعملاق اقتصادى عالمي تلك التجربة الحية التى غصت فى تفاصيلها هى ما تجعلنى اليوم أكثر يقينًا بأن الشراكة المصرية مع هذا النموذج الفريد ليست مجرد تعاون دبلوماسي، بل فرصة ذهبية لنقل تلك الروح وتوطين أسباب النجاح على أرض مصر.