إنه لمن العجب أن نرى العالم يجرى بأسرع مما تطيق العقول، وتبقى القلوب فى أماكنها حائرة، كأنها فوجئت بزمن لم تتهيأ له. كنا نظن أن التقدم والتكنولوجيا سيكونان معبراً إلى رفعة الإنسان، فإذا بنا نكتشف أننا ضللنا الطريق، أو لعل الطريق قد خُدع بنا. نحن أمام مفارقة قاسية، الآلات أصبحت أذكى، بينما الأخلاق أضعف، المعرفة متاحة، بينما الوعى أندر، الصوت الأعلى اليوم ليس لصاحب الحكمة، ولا للخبير الذى أفنى عمره فى دراسة أو بحث، بل لمن يجيد الضجيج، أو يملك المال، أو يعرف كيف يصنع التريند. فى الماضى القريب لا البعيد، كان يُحترم العالم، ويُقدر المعلم، ويُخشَى الفقيه، ويُتبع أهل الرأى والخبرة.. أما اليوم، فقد تصدر المشهد من لا علم، ولا تجربة له، تصدر من جعل من الشهرة بديلاً عن المعرفة، ومن المال مرآة للحقيقة، حتى غابت الموازين، واختلت المعايير. ليس الذكاء الاصطناعى هو الخطر، فهو أداة فى يد من يُحسن استخدامها، بل الخطر أن يُصبح بديلاً عن القلب والعقل، أن نترك القرار للآلة، والمشاعر للبرمجة، والعلاقات للمنصات. لقد خلق الله الإنسان ليكون سيداً فى هذا الكون، فهل يُعقل أن يُصبح تابعاً لشاشة أو جهاز؟ الذى يقلقنى ليس أن تتطور التقنية، بل أن نتراجع نحن.. أن نصير أكثر جموداً من الآلة، وأقل عاطفة من خوارزمية، أن يصبح اللاشيء هو كل شيء.. محتوى فارغ، ضجيج بلا معنى، علاقات سطحية، نجاح مزيف. فالحياة تقوم على القيم، على الحب الذى لا يشترى، على الرحمة التى لا تُعلم، على الصدق الذى لا يُبرمج، على العدل الذى لا يعرف تحيزاً لآلة. إن ما أخشاه أن يفقد الإنسان نفسه فى هذا التيه التكنولوجى، أن يضيع الجوهر فى زحمة المظهر، أن نمشى أسرع من اللازم حتى ننسى إلى أين نسير. علينا أن نحافظ على أنفسنا من هذا الطوفان، ونزرع فى قلوبنا بذور الحكمة.. فالحياة ليست أجهزة ولا تطبيقات، بل هى علاقة بيننا وبين الناس، بيننا وبين ربنا، بيننا وبين أنفسنا.. وإذا لم نحسن هذه العلاقة، فلا خير فينا، ولو امتلكنا عقول العالم كله.