في زيارتي الأولى إلى السنغال، تملكني انطباع عميق عن روح الرياضة والثقافة التي تعيش في شوارعها وأحيائها. هنا، كرة القدم ليست مجرد لعبة، بل هي نسيج اجتماعي متشابك مع حياة الناس اليومية، في كل ركن من أركان المدينة، تجد صغاراً وكباراً يشغلون أنفسهم بمزاولة هذه اللعبة الشعبية الأولى، لا تقتصر ملاعبهم على أندية رسمية فقط، بل تمتد إلى الشوارع الداخلية، إلى كل بقعة ومساحة متاحة يمكن أن تتحول إلى ملعب بسيط يحمل أحلاماً كبيرة، وليس بعيداً عن كرة القدم، لا يُخفى الاهتمام الواضح في السنغال باللياقة البدنية، المشي، الجري، السباحة هي جزء لا يتجزأ من حياة الكثيرين، حيث يسعون للمحافظة على صحة متوازنة وقوة بدنية، هذا الاهتمام يعكس ثقافة مجتمعية وتصميماً على تحسين جودة الحياة، وهذا ما يسهل على الإنسان السنغالي التفاعل الإيجابي مع طموحاته الرياضية والفنية. وفي قلب هذا المشهد الحيوي، ينبثق بعد آخر من أبعاد الثقافة السنغالية، ألا وهو السينما، تشتهر السنغال بوافر اهتمامها بالسينما ليس فقط محليا بل إقليمياً، حيث تمتد أنظار السينمائيين والمبدعين إلى اللقاء مع الجمهور في دول الجوار وإلى المشاركة في فضاءات العالم الفرانكفوني، اتجاه لدراسة فنون السينما في معاهد متخصصة، وورش تدريبية منتشرة في الأقاليم إلى جانب العاصمة، حيث يعمل الخبراء المحليون والفرانكفونيون على تطوير مهارات الشباب في عناصر صناعة الفيلم المختلفة. وقد حظيت بتجربة خاصة أثناء حضوري مهرجان ZIFFA السينمائي في زيجنشور. هذا المهرجان الجديد يُعد بزوغ نجم سينمائي واعد، حيث استطاع أن يدمج بين مختلف شرائح المجتمع في إقليم كازامانس وعلى نطاق أوسع في السنغال، شباب المدينة وأفراد الأقاليم كانوا موجودين كمنظمين ومتطوعين ودارسين، يجتمعون مع الأساتذة والخبراء في أكاديميات السينما ليخلقوا بيئة حيوية من التعلم والتبادل الثقافي. لم يكن مهرجان ZIFFA مجرد منصة لعرض الأفلام فقط، بل كان احتفالا متكاملاً بكل الفنون التي تُثرِي الفضاء البصري والثقافي للمهرجان، كانت الأزياء الملونة حاضرة بقوة على الأرض وخلف وأمام الكاميرات، تعكس التراث وتضفي على الفعاليات رونقاً خاصاً جذب وسائل الإعلام والتواصل المختلفة، إلى جانب عروض الفلكلور الأفريقي التي أشعلت الأجواء بردود أفعال الحضور الحماسية، رغم الحرارة العالية والرطوبة التي تحف المكان. ذلك المهرجان الكبير كان أيضاً مناسبة لرؤية مدى دعم قيادة المدينة والإقليم الكبير كازامانس لهذا الحدث الثقافي الهام. شهدت أيام المهرجان حركة نشطة في الأسواق، حيث توافد المواطنون على شراء المنتجات اليدوية الفريدة المصنوعة من نسيج المنطقة والصدف والخشب، مما عزز من ديمومة الحرف التقليدية وأهميتها الثقافية، وخلال الحفل الختامي، عرض المهرحان فيلم "عايشة"، الذي كان ثمرة ورشة الرسوم المتحركة التي أقيمت ضمن فعاليات المهرجان، وتم تكريم القائمين عليها في لحظة مميزة أضفت بعداً جديداً لإبداع السينغال في هذا المجال. تميز المهرجان أيضاً بتركيزه على قضايا المرأة، حيث عرضت مجموعة من الأفلام التي تتناول التيمات النسائية، إلى جانب جلسة نقاش حية عن دور المرأة في السينما أثرت الحضور بشكل خاص، كما شهد المعرض الدولي للصور الفوتوغرافية دعماً رائعاً لشباب المصورين الأفارقة، مما أتاح لهم فرصة للعرض والتفاعل مع الجمهور من مختلف أنحاء القارة. على مستوى الحضور الدولي، شارك في تحكيم مسابقات المهرجان خبراء وفنانين من دول بلجيكا، أثيوبيا، مصر إلى جانب الحضور السنغالي المكثف، لم يكن الحاجز اللغوي عائقاً أمامي، بل على العكس، تطوع كثيرون لترجمة الأحداث والنقاشات إلى الإنجليزية، مما أتاح حضورا وتواصلا أوسع وأكثر حيّوية. ولم تتدخل إدارة المهرجان أبداً في نتائج التحكيم؛ فقد جرت التقييمات بأعلى درجات النزاهة والموضوعية، بناءً على تقييم عناصر العمل الفني من سردية بصرية وتأثيرها المكثف على المتلقي، فكان الإجماع على أن فيلم "ديمبا" السنغالي جديراً بالحصول على الجائزة الأولى في مسابقة الفيلم الروائي الطويل، فيما نال الفيلم السنغالي "بدون دعم" جائزة الفيلم القصير، وقد منحت لجنة التحكيم دروعاً خشبية تذكارية لأصحاب هذه الأعمال. في قلب نجاح مهرجان ZIFFA السينمائي في زيجنشور يقف الفنان باباكار، رئيس المهرجان، الذي أدار كل تفاصيل الفعالية بحنكة وإخلاص، بفضل رؤيته الواضحة وقدرته على استقطاب قامات فنية وسينمائية من داخل السنغال، رسم باباكار ملامح مهرجان متكامل جمع بين التراث والابتكار والإبداع، معززا دور المجتمع المحلي في كل خطوة من خطوات التنظيم، كان حضوره الميداني وروحه القيادية العامل الحاسم في تحقيق هذا الحدث الثقافي الفريد الذي أصبح منبرًا هامًا لصناعة السينما في إقليم كازامانس والسنغال عامة، حيث عمل إلى جواره فريق متميز وأساتذة من أكاديميات متخصصة لتقديم الأفضل أمام الجمهور والفعاليات الدولية. هكذا، أتاحت لي زيارتي للسنغال مشهداً نابضاً بالحياة الرياضية والثقافية، يختلط فيه المجتمع بعناصر الفن المختلفة بشكل متكامل، من كرة القدم إلى السينما، ومن الأزياء إلى الفلكلور، استطاعت السنغال أن تثبت أن الروح الأفريقية، رغم كل التحديات، لا تزال تنبض بالحياة والإبداع، مقدمة قصة ملهمة عن التلاحم بين المجتمع وفنون التعبير.