■ بقلم: إسلام الكتاتني أراد كارتر أن يستغل تلك اللحظة التاريخية ليدخل التاريخ وينال المجد إثر هذا الكشف العظيم، متخطياً البطل الحقيقى وصاحب هذا الكشف (حسين عبد الرسول) طفلنا الصغير وجرة مياهه فلولا هذه الجرة التى وقعت فى هذه البقعة المباركة ما وصلنا إلى هذا الكشف. هناك أشخاص يقف التاريخ طويلاً أمام مواقفهم الشجاعة ليعبر عن مدى إعجابه بل وانبهاره بسيرة هؤلاء الذين اختاروا أن يخلدوا أسماءهم بأحرف ناصعة من نور وأقلام تخط أسماءهم من ذهب، وكيف لا وقد فعلوا ما لم يفعله غيرهم لأنهم اختاروا الكرامة والشجاعة والقضية والمبادئ والوطنية الخالصة، لذا لا عجب أن يحترمهم العدو قبل الصديق وبطلنا اليوم هو ذلك الطفل الصغير (مرقص حنا) ابن المنصورة، الذى ترعرع على ضفاف النيل الخالد وروى بعذوبته دماءه النقيه لتجرى فى شرايينه عراقة النيل وأصالة وحضارة مصر، ذلك البلد الضارب جذوره فى أعماق التاريخ، بل إن التاريخ نفسه وُجد بعد أن وُجدت مصر، فلا غرابة أن يتشرب ذلك الطفل اليافع هذا الشموخ وتلك العزة والكرامة؛ لتروى دماءه حتى يصير شابا يافعا، ولاعجب أن يختار دراسة الحقوق فيصبح وكيلاً للنائب العام، ثم يمتهن المحاماة إلى أن يصبح نقيبا وهى المهنة التى تتوافق مع ما يؤمن به بالدفاع عن حق الفرد ضد أى ظلم أو اعتداء يتعرض له، إلى أن يصل إلى أعلى رتبة فى هذه المهنة السامية وهى الدفاع عن حق الوطن فى الدفاع عنه لكل ما يتعرض له من ظلم أو اعتداء أو إهدار لحقوقه المشروعة، وهنا يصبح النقيب (الثامن) لمحامى مصر فى الترتيب، وهذا الرقم له دلالة أخرى (8) لأن بطلنا عاش تجربة السجن لمدة ثمانية أشهر مع زمرة من رفاقه وقيادات حزب الوفد فى ذلك الوقت، الذين حُُكم عليهم بالإعدام بعد نفى الزعيم خالد الذكر سعد باشا زغلول إلى جزيرة سيشل، بعد فشل مفاوضات الجلاء، التى كان من نتائجها اندلاع ثورة 19 العظيمة . وتحت هذا الضغط الشعبى يخفف الحكم من الإعدام إلى السجن ل«سبع سنوات»، ثم يخفف إلى (ثمانية) أشهر وغرامة قدرها خمسة آلاف جنيه مصري. إذن أصبح (حنا) النقيب الثامن لنقابة المحامين الذى حبس (8) شهور فداء لمصر. ما أروع هذه المواقف النبيلة التى سجلها رفقاء دربه في الحبس وهم (ويصا واصف، حمد الباسل، ويصا بطرس غالى، علوى الجزار، مراد الشريعى، جورج خياط، مرقص حنا)، ليخرج هذا النبيل بعد ذلك ممتطيا صهوة جواده فى ميدان الوطنية ليسجل أعظم معاركه البطولية ضد أكبر قوة استعمارية فى ذلك الوقت، الدولة التى لا تغيب عنها الشمس (بريطانيا العظمى). حين رفع هذا الفارس النبيل سيفه بكل شموخ وإباء أمام سطوة المحتل الغاصب الذى كان يحلم بالظفر بأغلى كنوز مصر، حين اكتشف ذلك الصبى الصغير (حسين عبد الرسول) ذو الملامح السمراء ، تلك الملامح المصرية الأصيلة الضاربة فى أعماق صعيد مصر، حين كان يحمل جرة المياه التى يسقى بها عمال الحفر للتنقيب عن آثار مصر، ضمن فريق استكشافى بريطانى يقوده هيوارد كارتر، وهنا تحدث المفاجأة التى لم يكن حتى كارتر نفسه يحلم بها، حيث إنه فقد الأمل فى العثور على أى أثر من آثارنا العظيمة فى تلك المنطقة وتسرب إليه اليأس فلم يتبق أمامه إلا أسبوعان لإنهاء عقده مع الحكومة المصرية للتنقيب عن آثارنا المفقودة. وإذا بجرة الطفل الصغير تقع فى موقع آخر غير موقع الاستكشاف، فقد وقعت الجرة على حافة سلم أعظم مقبرة فى التاريخ البشرى مقبرة الملك الصغير (توت عنخ آمون)، وفى هذه اللحظة يتحول اليأس الذى تسلل لقلب كارتر إلى فرحة عارمة وكأنه هو أرشميدس عندما قال: (وجدتها وجدتها). فقد أراد كارتر أن يستغل تلك اللحظة التاريخية ليدخل التاريخ وينال المجد إثر هذا الكشف العظيم، متخطياً البطل الحقيقى وصاحب هذا الكشف (حسين عبد الرسول) طفلنا الصغير وجرة مياهه فلولا هذه الجرة التى وقعت فى هذه البقعة المباركة ما وصلنا إلى هذا الكشف التاريخى الذى أضاف سطورا ذهبية إلى أمجاد مصر العريقة. وهنا تبدأ كبرى معارك فارسنا النبيل الذى عُين وزيرا للأشغال العامة فى أول حكومة وفدية بعد دستور 23 وذلك فى يناير من العام 1924 حتى نوفمبر من نفس العام .. تلك الفترة التى سطر فيها (مرقص باشا حنا) اسمه فى سجلات الخالدين حين علم أن السيد هيوارد كارتر قد نسب لنفسه هذا الاكتشاف العظيم وصار يتعامل مع هذه المقبرة التاريخية للملك المصرى الصغير وكأنها من مقتنياته الخاصة، حين منع هذا الكارتر المصريين من دخول المقبرة وقصر دخولها فقط على الأجانب من الصحفيين والزوار، بل زاد فى صلفه وغروره وكبريائه، حين منح مجلة التايمز البريطانية حق الامتياز الحصرى لنشر كل ما يتعلق بالمقبرة دون الصحافة المصرية.. هنا استشاط فارسنا النبيل غضباً وقال كيف يحدث ذلك فى بلادى!! فأصدر على الفور أمرا بإغلاق المقبرة، وتعيين حراسة عليها من الضباط والجنود المصريين وعدم فتحها إلا بأمر منه شخصياً ، وهنا ثارت ثائرة كارتر كيف يفعل هذا الوزير فعلته تلك؟؟ وهنا اشتد وطيس المعركة، فبدأت بريطانيا العظمى فى التحرك لإيقاف هذه المعركة شديدة الوطأة عليها لتحويل مسارها إلى نصر ساحق تكلله بالظفر بهذه المقبرة وإعادة فتحها مرة أخرى لابنهم المدلل السيد كارتر. ولكن هيهات هيهات، وهنا زاد فارسنا النبيل من صهيله وزئيرة وأمر بتوثيق محتويات هذه المقبرة بدءا من تصوير كل قطعة وكتابة رقم تسلسلى لها وتدوينها فى السجلات المصرية ثم إرسالها إلى المتحف المصرى بالقاهرة.. مما زاد من لهيب تلك المعركة، فلجأت بريطانيا إلى المحاكم المختلطة لتستصدر منها أمراً بأحقيتها فى نصف المقبرة وبالفعل صدر الحكم وكأنه انتصار لكارتر وعندئذ لم يسلم فارسنا النبيل رايته بل وزاد فى نضاله وطرد كارتر من مكتبه معترضا على هذا الحكم الجائر من المحكمة المختلطة بدعوى أنه يحق للمستكشف الحصول على نصف المقبرة إذا كانت مسروقة. وسرعان ما تفتق ذهن فارسنا النبيل إلى اللجوء لمحكمة الاستئناف بالإسكندرية معتمداً على تصريحات كارتر نفسه التى أدلى بها إلى الصحف الإنجليزية والأجنبية بأن المقبرة وجدت كاملة وغير منقوصة مما يعنى أنها ليست مسروقة، فصدر الحكم التاريخى من محكمة استئناف الإسكندرية بأحقية مصر فى ملكية المقبرة بالكامل، مما أجبر كارتر للرضوخ والاستسلام لشروط مرقص باشا حنا، بل والاعتذار له ولمصر على ما بدر منه فلا عجب بعد ذلك أن تنزل الجماهير المصرية إلى الشوارع والميادين وهى تهتف صارخة من أعماق قلوبها (يعيش يعيش وزير توت عنخ آمون، يعيش يعيش وزير توت عنخ آمون).