د. منير الحايك فى كتابه «الزمان والسرد» يقول بول ريكور إنّ «السرد يعطى شكلًا للتجربة الإنسانية من خلال ترتيب الأحداث فى كلٍّ متكامل ومعنوى التاريخ أيضًا يبحث عن المعنى، ولكن عبر الأدلة والتفسير»، ولأننا أمام رواية تعود بنا فى التاريخ إلى ثلاثينيات القرن الماضى، فى الكويت، كان لا بدّ من البحث عن الشكل الذى توخّاه عبد الوهاب الحمادى للتجربة الإنسانية فى بلاده فى روايته «سنة القطط السمان» (دار الشروق 2024). إنّ إعادة ترتيب الأحداث فى كلّ متكامل ومعنوى هو ما يتوجّب على الروائى أن يقوم به بحسب ريكور، ولكن هل يستطيع كلّ مبدع أن يصل إلى هذا الكلّ المعنوى فى عمله السرديّ؟ أقول إن الحمادى حاول ووصل وأعطى شكلًا من خلال السرد للتجربة الإنسانية، ولكن ما نسبة «الكلّ» التى حققها؟ الرواية تحكى قصة مساعد، والصوت الذى يسرد من خلال مخاطبته، وفى مواضع كثيرة يتدخل السارد العليم ليقوم بهذا الدور، تقنية موفَّقة فى الحالين، وكانت مناسبة لكل مقطع اختار له سارده، مساعد الذى نعرف مباشرة أنه يعيش فى بيت مع زوجته سعاد، وأمه وأخته، وأنّ والده فارقهم منذ مدة، مساعد الذى تبدأ قصته ببعض الطعام الذى أحضره معه من مطعم «الهندستانى»، حيث يجتمع وأصدقاءه، ونعرف عنهم الكثير فيما، ناصر وحاتم وخليفة، وغيرهم من شخصيات تظهر بحسب الدور الى أراد النصّ إعطاءه لها. الحمادى أراد مساءلة التاريخ من خلال مساعد، وأراد لقصة الهندستانى ومطعمه، الذى اتهم بأنه كان يبيع فيه الناس لحم قطط، والأدلة ثمانى قطط سمان وجدوها فى بيته، وقطة سوداء مذبوحة أمامه، وشعرة سوداء فى المطعم، المطعم وصاحبه، ودفاع المسؤول الإنجليزى عنه بوصفه واحدًا من التابعية، هو الأمر الذى أرادت الرواية التركيز عليه، وعلى الحال السياسية التى سادت فى تلك المرحلة، ودور الشيوخ فى المواجهة التى بدأت تظهر. بالإضافة إلى الركن الأساسى الذى بسببه تبدأ الرواية تُصعَّد أحداثها نحو النهاية وما سيحل فى مساعد، وهو الشريك الذى ستتأزم أحواله بسبب ذلك، المادية والنفسية، وتتأزم علاقاته بأصدقائه، وخصوصًا ما حصل مع ناصر قبيل سفره إلى البصرة. الأصدقاء الأربعة، مساعد وحاتم المثقف وناصر العروبى الذى جمع المال لفلسطين، وخليفة الذى سيصبح الملا (رجل الدين اللاحق) ومعهم منصور ووالده وما سيحلّ بهم، والذى معه يبدأ التأزم وتنتهى الرواية، وغيرهم ممن سيظهر من شخصيات، كلها أعاد الحمادى تشكيلها معًا لتحمل الكلّ المعنوى الذى أراده من هذه العودة إلى التاريخ، وهو أن يقول إن البلاد، التى نقرأ تاريخها ونعرف عنها اليوم أنها وطن نهائى بمواقف أبنائه وحكّامه، لم تكن وطنًا نهائيًّا متَّفق عليه، فها هى النقاشات بين الشيخ وبين المسؤول البريطانى وبين الشباب فى تلك المرحلة، حول استقلال البلد أو حول ضرورة الوحدة والعروبة تظهر وتعيد الرواية إحياء النقاش حولها، وليس العودة إلى منطقة الزبير التى «ابتلعها العراق» على حد قول «النص» إلا مثالًا أراد الكاتب أن يقول الكثير من خلاله. القضايا الملحّة التى أرادها الحمادى واضحة ومعروفة، قدمها من خلال شبكة علاقات موفَّقة لبناء نصّه، ومن خلال قصة مساعد، وقصة ابنيه اللذين نعرف أخبار «موتهما» أجنة فى رحم والدتهما، وقصته مع المطعم وموقفه الحائر فى النهاية، والربيع الأخضر الذى تنبأ به، ورؤية وجهه قطًّا سمينًا فى بركة الماء، وما يرافق المتلقى وهو يقرأ صفحات الرواية الأخيرة من إعادة تفكير بالكثير من مواقفه ومبادئه، وأنا هنا أركّز على نهاية النص، لأنها برأيى كانت الأقوى والأعمق والأكثر جذبًا وتأثيرًا، فماذا عن بداية النص ومتنه؟! فى صفحات الرواية الأربعين الأخيرة تكمن براعة الكاتب وقوة النص، من خلال الحلم ومن خلال اللغة والتركيب السردى والصياغة، وهنا أعود إلى بداية النص لأقول إنها كانت بمستوى يشابه مستوى نهايته، ولكن بالنسبة إلى شخصيًّا، واجهتنى مشكلة فى البناء السردى فى منتصف النص، فالكثير من السرد كان ثقيلًا، والكثير من الحوارات كان فيها تكرار بطرق مختلفة، على سبيل المثال حياة مساعد وعائلته ووالده وزوجته، أعاد صياغتها على لسان سارد آخر، من دون مبرر أو جدى، وقس على ذلك بعض الحوارات وبعض الأحداث التى رأيت فيها حشوًا كان يمكن الاستغناء عنه. لغة النصّ متينة ومحبوكة وجذلة، ولكن ليس فى الصفحات الأولى على عكس البناء، فالكاتب له أسلوبه ولغته الخاصة، وهذا يُحسب له، ولكن يحتاج المتلقى وقتًا ليعتادها، ولكنه ما إن يتخطى العتبات والصفحات الأولى، حتى يجد نفسه أمام لغة كاتب متفرّد ومحترف، وهنا أقول إن النصّ الروائى الذى قد تختلف عليه آراء المتلقين فى بنائيته، طالما أن لغته لا يشوبها هنات أو تكلّف، فهى تحميه من كلّ اختلاف أو خلاف حول أى ركن من أركانه. سنة القطط السمان رواية عن تاريخ البلاد، بقالب من العلاقات بين أبناء الجيل الواحد الذى جمعتهم الصداقة وفرقتهم الأفكار التى سادت وانتشرت، ليقول ابن تلك البلاد، والذى يحمل همها، وما زال يحمل همومًا كبرى معها، كهم فلسطين، أراد من خلال روايته أن يعيد إلى الأذهان بأن فلسطين وهمّها حملناه ونحمله وسنستمر فى حمله ما حيينا، والحمادى، الكويتى الذى يؤكّد على القضية وضرورة التمسك بها، هو أكبر دليل على أنّها لن تموت، وهى «كلٌّ معنوي» لا يفنى، وسيظلّ حاضرًا فى كل عمل إبداعى أصيل وملتزم.