كتبت: دعاء نيازي كشف تقرير جديد لمجلة New Lines، عن مشهدين متوازيين يعيشان داخل غزة كما لو كانا عالمين منفصلين تمامًا، في أحدهما تواصل إسرائيل حربها بلا توقف رغم وقف إطلاق النار، وفي الآخر تتبدل موازين القوى سياسيًا وميدانيًا لتضع تل أبيب في موقع المرتبك والمأزوم، في هذا الصدد يرصد التقرير كيف تحوّل العدوان الإسرائيلي إلى عبء سياسي على حلفاء إسرائيل، وكيف بات مستقبل غزة يُرسم في غرف القرار الأمريكية والدولية، بينما يواصل الفلسطينيون دفع الثمن وحدهم وسط دمارٍ لا يتوقف. عالمين منفصلين في غزة تتقاطع واقعتان متوازيتان أشبه بعالمين منفصلين في غزة اليوم في العالم الأول، المشهد واضح ومروّع لا وجود فعليًا لوقف إطلاق نارو إسرائيل تواصل قصفها وعملياتها العسكرية متى شاءت، مستخدمة كل ما تملك من مقاتلات وقناصة وطائرات مُسيّرة لقتل الفلسطينيين، لا أحد بمنأى عن الاستهداف. تبرّر إسرائيل هذا القتل المتواصل بذريعتين، الأولى «انتهاك وقف إطلاق النار»، فكل فلسطيني يُضبط في الجانب الإسرائيلي من الخط الأصفر، وهو الخط الذي يقسم قطاع غزة إلى نصفين بين إسرائيل وحماس، يُعدّ منتهكًا للاتفاق ويُطلق عليه النار فورًا، أكثر من 200 فلسطيني استشهدوا منذ بدء الهدنة، بينهم أكثر من مئة في يوم واحد بعد انتهاك مزعوم، وإسرائيل تتصرّف وكأنها تملك تفويضًا مفتوحًا للقتل، كما لو أن لاعبًا في مباراة كرة القدم يرتكب خطأً فيُسحب إلى الهامش ويُعدم بالرصاص. الذريعة الثانية الذريعة الثانية هي المهمة التي أعلنها بنيامين نتنياهو تدمير حماس، وبما أن إسرائيل تعتبر أن كل غزة هي حماس، وأن كل مبنى فيها خدم أو قد يخدم أغراضًا «إرهابية»، فهي ترى في نفسها الحق في تدمير كل ما تقدر عليه، منطقها بسيط كلما دمرت أكثر، قلّت قدرة حماس على الصمود في المفاوضات المقبلة، وزادت فرص تل أبيب في فرض شروطها، وعلى رأسها الاحتفاظ بحق الهجوم داخل غزة متى شاءت أو إبقاء قواتها فيها بشكل دائم، هذا التصور يستند إلى قناعة بأن لإسرائيل نفوذًا دبلوماسيًا يكفل لها مواصلة هذه الحرية في القتل بلا محاسبة، فالدمار الجيد هو ذاك الذي لا يُسأل عنه أحد، ما دام لا توجد نهاية محددة للحرب. العالم الموازي الثاني داخل غزة لكن في العالم الموازي الثاني داخل غزة، تغيّرت موازين القوة، لم تعد لإسرائيل اليد العليا في رسم الواقع الميداني أو السياسي، أصبحت عبئًا سياسيًا حتى على حلفائها، وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يتعرض لانتقادات واسعة لدعمه إسرائيل على حساب القانون والمصالح الأمريكية، ورغم أن إسرائيل توهم نفسها بأنها لا تزال فوق المساءلة، فإن الواقع يقول إن أحدًا لم يعد يعبأ كثيرًا بمأساة الفلسطينيين، وإن واشنطن تمنح إسرائيل رخصة مشروطة للقتل يمكنها أن تقتل الفلسطينيين ما لم تبالغ في الأعداد، وأن تزعم دائمًا أنها تردّ على خروقات حماس. مستقبل غزة لكن رغم هذا الدم اليومي، فإن الأحداث لم تعد تصنع مستقبل غزة بقدر ما يرسمه الأمريكيون، فقيادة القيادة المركزية الأمريكية (سنتكوم) أنشأت مركزًا للتنسيق المدني العسكري في مدينة كريات جات الإسرائيلية قرب حدود غزة، لتنسيق جهود الاستقرار والمساعدات الإنسانية، و مجرد إنشاء هذا المركز يمثل تحوّلًا استراتيجيًا عميقًا، لأن إسرائيل لطالما رفضت أي شكل من أشكال التدويل أو الرقابة الدولية على إدارة الأراضي الفلسطينية، خشية انكشاف واقع الاحتلال أمام العالم. إسرائيل التي طالما روّجت لنظرية الردع الدائم والضرب الاستباقي، تجد اليوم هذه العقيدة مفرغة من معناها مع دخول أطراف دولية للمشهد، فوجود قوات من تركياوقطر ومصر وأذربيجان وإندونيسيا، مثلًا، في مهام إنقاذ أو مراقبة، يعني ببساطة أن إسرائيل لم تعد قادرة على إطلاق النار متى تشاء. استمرار الفلسطينيون في دفع الثمن في ظل هذه المعادلة، يستمر الفلسطينيون في دفع الثمن، وتواصل إسرائيل القتل والهدم، بينما يتآكل نفوذها في القطاع، حتى في قضايا تفاوضية محدودة، كقضية المقاتلين ال200 المحاصرين في أنفاق رفح الفلسطينية، تبدو إسرائيل مرتبكة، وتقارير متضاربة تتحدث عن تفاوض لإطلاقهم مقابل جثة الجندي الإسرائيلي هدار جولدين، وعن ضغوط أمريكية للسماح لهم بالخروج الآمن، مشهد كهذا كان مستحيلًا قبل أشهر فقط، وإسرائيل التي خرجت لتدمّر حماس، تجد نفسها تفاوض لإنقاذ مقاتليها. ارتباك داخل إسرائيل ومع هذا الارتباك، تعمل تل أبيب على إطالة أمد الفوضى ومنع أي ترتيبات دولية جديدة، بينها قوة استقرار دولية يجري الإعداد لها لتقديمها إلى مجلس الأمن ، في الوقت نفسه، تواصل القصف والاغتيالات تحت شعار تحييد الأهداف، رغم سقوط مئات المدنيين يوميًا، وتمنع دخول المساعدات، في محاولة يائسة للاحتفاظ بما تبقى من أوراق ضغط، ولأن الصورة الإعلامية صارت كارثية، بدأت إسرائيل بتنظيم زيارات محدودة لصحفيين أجانب داخل غزة بإشراف جيشها، في محاولة لتوجيه السرد الإعلامي، كما أطلقت حملة دعائية ضخمة مدعومة بتقنيات الذكاء الاصطناعي لتجميل صورتها، لكنها تدرك أن العالم لم يعد يصدق روايتها، فبعدما كانت قادرة على إقناع الرأي العام بأن دمار غزة ضرورة أمنية، بات واضحًا أن ما جرى هو جريمة إبادة جماعية لن تستطيع حملات التبرير محوها. قصف مواقع في لبنان وأمام هذا الانهيار، تحاول إسرائيل لفت الأنظار خارج غزة بقصف مواقع في لبنان، مهددة بفتح جبهة جديدة ضد حزب الله، في خطوة يرى المراقبون أنها تهدف لصرف الانتباه عن فشلها في الجنوب الفلسطيني. اقرأ أيضا: نتنياهو وكوشنر يبحثان نزع سلاح حماس واستبعادها من إدارة غزة الكواليس في الجانب الاخر أما في الكواليس، فتقارير متواترة تشير إلى أن قطروتركيا أصبحتا على تواصل مباشر مع إدارة ترامب، حتى قبل اتصالها بنتنياهو وترامب الذي يهوى المديح الإسرائيلي، ويدرك أيضًا أن دعمه غير المشروط يحمل كلفة سياسية داخلية وخارجية، لذلك يسعى إلى صيغة إدارة من الخلف تمنحه السيطرة دون التورط العسكري المباشر، اللافت أن هذه الترتيبات تجري دون أي تمثيل للفلسطينيين، لتتكرر المأساة ذاتها، تقرير مصيرهم بأيدي الآخرين. وفي هذا العالم الثاني، لم تعد إسرائيل تسعى لضم غزة أو إعادة احتلالها، بقدر ما تهتم بتجاوز أزماتها الداخلية، ومحاكمة نتنياهو بتهم الفساد، والجدل المحتدم حول تقويض استقلال القضاء، حتى ترامب، الذي يلوّح بمساعدة «بيبي» في محنته القضائية، لم يعد راغبًا في الانخراط أكثر من ذلك، بل أكد رفضه لأي محاولة لضم الضفة الغربية، نزولًا عند رغبة حلفائه العرب والأتراك. اقرأ أيضا: الجيش الأمريكي يخطط لنشر مليون طائرة مسيّرة خلال 3 أعوام قصة «العالمين المتوازيين» هكذا تنتهي قصة «العالمين المتوازيين»: في أحدهما تواصل إسرائيل حرب الإبادة على الفلسطينيين بلا رادع، وفي الآخر تتآكل سلطتها تدريجيًا في غزة، وتفقد السيطرة على المشهد الذي أشعلته بنفسها. أما الإسرائيليون، فقد سئموا الحرب، وباتوا يرون أن كل ما تبقى منها هو إعادة جثث الرهائن. ومع عودتهم إلى حياتهم الداخلية، يُطوى الملف الغزّي في وعيهم العام، تاركين وراءهم أرضًا مدمّرة وشعبًا يواجه وحده نتائج حرب بلا نهاية