فى مشهد يعكس قدرة مصر القوية فى دائرة التأثير الأوروبى، أجرى الرئيس عبد الفتاح السيسى زيارة رسمية إلى العاصمة البلجيكية بروكسل الاسبوع الماضى حملت فى طياتها بعدين متكاملين: الأول أوروبى يرسخ الشراكة الاستراتيجية بين القاهرة والاتحاد الأوروبي، والثانى ثنائى يعزز العلاقات المتنامية مع مملكة بلجيكا. الزيارة لم تكن بروتوكولية، بل جاءت لتعكس إدراكًا متبادلًا بأن العلاقات المصرية - الأوروبية دخلت مرحلة جديدة من التقاطع الاستراتيجى فى المصالح والتوجهات، فى ظل عالم يشهد اضطرابًا سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا متسارعًا. ترأس الرئيس السيسى وفد مصر فى القمة المصرية الأوروبية الأولى من نوعها، وهى محطة مفصلية فى مسار العلاقات بين الجانبين، إذ مثّلت التطبيق العملى لاتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة الموقعة فى مارس 2024. القمة لم تكتفِ بطرح الرؤى العامة، بل ناقشت ستة محاور محددة تمثل ركائز التعاون بين مصر والاتحاد وهى: الحوار السياسي، الاستقرار الاقتصادى، الاستثمار والتجارة المستدامة، الهجرة، التعاون الأمنى ومكافحة الإرهاب، وتنمية رأس المال البشرى. فى المباحثات التى جمعت الرئيس السيسى بكلٍّ من أنطونيو كوستا رئيس المجلس الأوروبى وأورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية، بدا واضحًا أن هناك تطابقًا فى الرؤى بشأن كثير من الملفات الإقليمية، من السودان وليبيا إلى سوريا ولبنان والقرن الإفريقي، وصولًا إلى الملف النووى الإيرانى. وتؤكد هذه الحوارات أن مصر لم تعد مجرد طرف إقليمي، بل شريك لا غنى عنه فى صياغة مقاربات أوروبية جديدة للتعامل مع أزمات الشرق الأوسط وإفريقيا. استحوذت التطورات فى قطاع غزة على نصيب وافر من النقاشات، وجاءت المداولات لتؤكد أن رؤية مصر للسلام باتت تحظى بقبول أوروبى واسع. فالاتحاد الأوروبى أبدى دعمه الكامل ل اتفاق شرم الشيخ كإطار لإنهاء الحرب وضمان استدامة وقف إطلاق النار، مع إشادته بجهود القاهرة فى إدخال المساعدات الإنسانية وتهيئة الأجواء لإعادة الإعمار. كما رحب الأوروبيون باستضافة مصر مؤتمر إعادة إعمار غزة فى نوفمبر المقبل، مؤكدين التزامهم بالمشاركة الفاعلة فيه، ودعمهم لحل الدولتين كخيار استراتيجى وحيد لتحقيق الاستقرار فى المنطقة. تلك المواقف لم تأتِ مجاملة، بل تعكس إدراكًا أوروبيًا بأن مصر هى الضامن الواقعى لأى سلام محتمل فى الشرق الأوسط، وأن الدور المصرى بات محورياً فى موازنة القوى وتخفيف التوترات. أحد الملفات التى حظيت بتقدير أوروبى خاص هو مكافحة الهجرة غير المشروعة، إذ أجمعت التصريحات الأوروبية على أن النموذج المصرى فى إدارة هذا الملف يمثل قصة نجاح حقيقية. فمنذ عام 2016 لم تخرج من السواحل المصرية أى قوارب هجرة غير شرعية، فى وقت تستضيف فيه القاهرة أكثر من 9٫5 مليون أجنبى من دول تعصف بها الأزمات. ومع ذلك، لم تساوم مصر يوماً على هذا الموقف الإنسانى، ولم تربطه بمكاسب مالية أو سياسية، وهو ما عزز مكانتها ك شريك مسئول يمكن الوثوق به فى إدارة التحديات العابرة للحدود. اقتصاديًا، حملت الزيارة نتائج ملموسة تمثلت فى توقيع مذكرات تفاهم تخص الشريحة الثانية من الدعم المالى الأوروبى لمصر بقيمة 4 مليارات يورو، إضافة إلى حزم ضمانات استثمار ومِنَح وبرامج دعم فنى تستهدف توطين الصناعة وجذب الاستثمارات الأوروبية. وفى خطوة تحمل دلالة استراتيجية، وقعت مصر على اتفاقية الانضمام إلى برنامج «أفق أوروبا» وهو أضخم برنامج أوروبى للبحث العلمى والابتكار، ما يفتح الباب أمام الباحثين المصريين للحصول على تمويل أوروبى والمشاركة فى مشروعات علمية.. الزيارة لم تقتصر على القمة الأوروبية، بل شملت لقاء الرئيس السيسى مع رئيسة البرلمان الأوروبى روبرتا ميتسولا، فى حوار تناول دعم البرلمان الأوروبى للإصلاح الاقتصادى فى مصر، وتأكيد التقدير المصرى للمواقف الأوروبية الداعمة للشعب الفلسطينى. كما عكست الزيارة حرص القاهرة على مدِّ جسور التواصل المؤسسى مع المؤسسات التشريعية الأوروبية، لتتحول العلاقات من مستوى الحكومات إلى مستوى الشراكة المجتمعية والسياسية الشاملة. تؤكد زيارة بروكسل أن مصر تسير بخطى واثقة نحو ترسيخ مكانتها كشريك لا غنى عنه لأوروبا. فهى تجمع بين قوة الموقف السياسى والمصداقية فى الملفات الإنسانية والرؤية الاقتصادية المتوازنة، ما جعلها اليوم نقطة ارتكاز فى معادلة الأمن والاستقرار الإقليمى والدولي. وبقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسى، تبدو القاهرة أكثر حضورًا وتأثيرًا على الساحة الأوروبية، ليس فقط كجسر بين الجنوب والشمال، بل كقوة تملك قدرة الفعل والتأثير وصياغة المستقبل.