فى كل عام يطل علينا السادس من أكتوبر محمّلًا ببهجة لا مثيل لها، لحظة استعادة الكبرياء الوطنى للعسكرية المصرية التى ظلمت فى 5 يونيو عام 1967 لتكتب بعد ست سنوات فقط أعظم انتصار نفخر به كمصريين وعرب على المحتل الغاصب والذى ظنّ كذبًا أنه لا يقهر وأنه صاحب الذراع الطولى التى تستطيع أن تصل إلى أى مدينة وعاصمة فإذا بقواتنا تصفعه ليستيقظ من أوهام الغرور والاستعلاء والأساطير التى نسجها كبيت من عنكبوت: من انتصر؟ مؤخرًا نشرت «يديعوت أحرونوت» تقريرًا عن أشرف مروان لتعيد فتح ملف أوسع من اسمٍ واحد: ملف مصداقية الرواية الإسرائيلية نفسها، الصحيفة العبرية نقلت خلاصة تحقيق داخلى يؤكد أن الرجل الذى مجّدته الأجهزة لعقود بوصفه «الملاك» كان - وفق روايتهم الجديدة - رأس حربة فى خطة الخداع المصرية لا العكس، الاعتراف - وإن جاء مُلتبسًا - يصيب سردية كاملة فى مقتل: إذا كان «أهم مصدر» لدى الموساد قد خدم خطة الخصم، فكم من أساطير ما بعد الحرب بُنيت على رمال متحركة؟ لكن قصة أشرف مروان ليست سوى حجر زاوية فى عمارة أكبر اسمها داخل إسرائيل «الكونسبتسيا»؛ ذلك الإطار الذهنى الذى افترض أن القاهرة ودمشق لن تجازفا بالحرب، هذا التصوّر المسبق، لا الإشارة السرية أو المعلومة الناقصة فقط، هو ما كُشف رسميًا بعد الحرب على يد «لجنة أغراناط» فشلٌ استخباراتى بنيوي، وإصرار على قراءة الواقع عبر عدسة خاطئة، ثم إزاحة للكلفة إلى المستوى المهنى مع تبرئة سياسية واسعة. الباحثون الإسرائيليون عادوا بعد عقود لتفنيد هذا «الإنقاذ المؤسسي» للرواية الرسمية، والتذكير بأن الإخفاق لم يكن ميدانيًا فحسب، بل فى صميم تقدير النوايا بعبارة أخرى: لم تُفاجَأ إسرائيل لأن العرب «خدعوا» فقط، بل لأن إسرائيل أرادت أن تُصدق ما يوافق قناعتها المسبقة. على الأرض، انهارت ركائز سردية «المناعة المطلقة» بسرعة خط بارليف، الذى قُدّم عقودًا كجدارٍ لا يُقهر، سقط فى ساعات مع عبور مصرى مُحكَم (عملية بدر) واستخدامٍ مبتكر لمدافع المياه لتجريف الساتر الرملى وفتح عشرات الثغرات فى خط التحصينات ذلك العبور لم يكن «اندفاعة عاطفية»، بل نتاج تخطيطٍ هندسى وتكتيكى دقيق، وتحت مظلّة صواريخ دفاع جوى جعلت السماء فوق القناة مكلفة جدًا على سلاح الجو الإسرائيلى فى الأيام الأولى، فى المقابل، اصطدمت الهجمات المضادّة الإسرائيلية بصواريخ «ساغر» المضادّة للدروع، فتكبّدت تشكيلات مدرّعة خسائر فادحة - خاصة فى 8 أكتوبر - قبل أن يطوّر الجيش الإسرائيلى لاحقًا تكتيكات مضادّة ويبدأ التعافي، هذه الوقائع تكسر صورة «التفوّق الآلي»، وتُظهر أن ميزان التكنولوجيا والتكتيك انقلب فى الساعات الأولى لصالح القاهرة. تقول الرواية الإسرائيلية الشائعة: إن الحرب انقلبت بمجرد عبور فرقة شارون غرب القناة ومحاصرتها للجيش الثالث المصري؛ وإن ما سبق كان «مفاجأة تكتيكية» لا أكثر لكن القراءة الهادئة تُظهر أن هذا الانقلاب نفسه احتاج جسرًا أمريكيًا هائلًا: عملية «نيكل غراس» التى ضخت عشرات آلاف الأطنان من السلاح والعتاد إلى إسرائيل جوًا وبحرًا، فى واحدة من أكبر جسور الإمداد الاستراتيجى فى الحرب الباردة، بالتوازى مع إنذار نووى أمريكى وتوتر عالمى غير مسبوق بكلماتٍ واقعية: من دون تلك الرافعة اللوجستية والسياسية، كان «الانعطاف» الإسرائيلى أصعب وأبطأ.. أيّ سرديةٍ تغفل هذا العامل الجيوسياسى تختزل الحرب إلى معركة محلية، وهى لم تكن كذلك. وإذا كانت الآلة الإعلامية الصهيونية يروق لها أن تطرح سؤالاً مضللاً: من الذى انتصر فى حرب أكتوبر فالإجابة ببساطة لدى جولدا مائير وموشى ديان، بل والبيت الأبيض الذى أنقذ حليفته كما ذكرنا. وإذا كان التكتيك هو المعيار، يستطيع كل طرف أن يلتقط من الأيام القليلة ما يدعم روايته أما إذا كان المعيار استراتيجيًا - سياسيًا، فإن أكتوبر هزّ عمودين إسرائيليين أساسيين: «لا قدرة عربية على المبادرة»، و«لا ثمن حقيقيًا للاحتلال» مصر حدّدت فى معركتها هدفًا واقعيًا: كسر الجمود، استرداد الضفة الشرقية للقناة وفرض مسار تفاوض، وهذا ما حدث بالفعل وصولًا إلى اتفاقات فصل القوات ثم السلام واستعادة سيناء كاملة هنا يغدو ادّعاء «النصر النهائي» الإسرائيلى متهافتًا أمام حصيلة سياسية نهائية خرجت فيها القاهرة بما أرادت، ودفع فيها المجتمع الإسرائيلى أثمانًا عميقة فى الثقة بالمؤسسة والأمن القومي. حتى ذاكرة الحرب فى إسرائيل تكشف هشاشة السرد الواحد: ف«الكونسبتسيا» صارت مرجعًا للتقريع الذاتى بكل فشل استخباراتى لاحق، من دون حسمٍ للدرس نفسه: أن الافتراضات تتضخم لتصير عقيدة، وأن «إدارة الصراع» قد تبدو ناجحة حتى تنهار فجأة. ونعود إلى مروان، يكفى أن نرصد تبدّل اللغة داخل الصحافة العبرية: من تجسيد «العميل الخارق» إلى الإيحاء بأنه ذراعٌ لعملية خداع مصرية متكاملة سواءٌ اقتنعنا بهذا الانقلاب أم رأيناه جدلًا متأخرًا، فحقيقةٌ واحدة تبقى: جهاز يبدّل قوله بعد نصف قرن يعترف ضمنًا أن حجارة الأساس فى روايته قابلة للتهافت عند هذه النقطة يغدو مشروعًا أن نسأل: كم من «حقائق» أخرى جرى صقلها حتى يتم صناعة أسطورة كاذبة؟ وعلى الجبهة السورية تكشّف جزء آخر من الصورة: اندفاعة مبكرة على الجولان أربكت الدفاعات الإسرائيلية، قبل أن يستعيد الجيش الإسرائيلى زمام المبادرة ويعبر خطوط وقف إطلاق النار.. المعنى هنا ليس «من غلب من»، بل إن الحرب كسرت أحادية التفوق وفرضت على إسرائيل تعبئة غير مسبوقة ومعارك استنزاف حقيقية على جبهتين، وهو ما لم تكن المؤسسة الأمنية قد واجهته منذ 1967 هذه الحقيقة تؤطر الحرب كاختبار قدرة عربية على المبادأة لا مجرد «مفاجأة عابرة». حتى تفاصيل التكتيك تحمل ثورة صامتة: الجندى المصرى على الضفة الشرقية مسلّحٌ بكثافة من قاذفات RPG وصواريخ «ساغر»، وأنماط انتشار تحميه من الهجمات المدرعة، وتحته شبكة هندسية أقامت جسورًا خلال ساعات فى الجو، «المظلّة الصاروخية» حدّت من حركة الطيران الإسرائيلي، وأجبرت قيادته على إعادة ابتكار أساليب القتال وفتح «ممرات» بالقوة داخل حائط الصواريخ وحين تُضاف هذه العناصر إلى عامل المفاجأة السياسي، نفهم لماذا انهارت ثقة الذات الإسرائيلية فى أيام الحرب الأولى، ولماذا احتاجت تل أبيب أشهرًا وسنوات من لجنة تحقيق ومذكرات وقصص بطولة لاستعادة السرد. خلاصة القول: لا يمكن قبول الرواية الإسرائيلية ككتلة صمّاء من مروان الذى صار «فضيحةً معكوسة»، إلى «الكونسبتسيا» التى اعترفت بها مؤسسات الدولة، إلى وقائع العبور والتفوّق التكتيكى المصرى المبكر، إلى الجسر الأمريكى الذى حفظ ماء وجه الكيان، ثم حصيلة سياسية أعادت سيناء كاملة؛ كل ذلك يقول إن أكتوبر ليس أسطورةً دعائية، بل منعطف استراتيجى أعاد تعريف الممكن العربى وفرض ثمنًا على الاحتلال. فى ذكرى العبور، ليست الحاجة إلى تمجيدٍ أجوف، بل إلى تحرير السرد من أساطيره فالنصر الحقيقى ليس ما تقوله الملصقات، بل ما يثبته الدليل المركّب: وثائق، لجان تحقيق، خرائط قتال، ومكاسب سياسية.. نهائية بهذا المعيار تنهار «حكاية إسرائيل» عن حربٍ كادت - فى سردها - أن تكون «نزهة انتهت بانتصار»، وتظهر صورتها الحقيقية: حربٌ كُسرت فيها بداهات التفوق، وأُجبرت فيها إسرائيل على التعلم بالطريقة الصعبة وذلك بالضبط ما أراده السادس من أكتوبر.