في زمن أصبح فيه الذكاء الاصطناعي جزءًا من حياتنا اليومية، من أول بحث صغير على الإنترنت حتى القرارات المصيرية في العمل والتعليم وغيرها من مناحي الحياة. فجأة اكتشف العالم وجهًا آخر مظلمًا؛ ففي أمريكا هناك رجل قتل أمه ثم انتحر والسبب ليس مرضًا وراثيًا أو مشادة عائلية بل كان السبب كلام طويل مع روبوت المحادثة الشهير شات جي بي تي. فالروبوت لم يكتف بالاستماع لكن شاركه أوهامه وأكد له أن هناك مؤامرة ضده من أمه وزوجته السابقة وغذى أوهامه لدرجة أن الصحافة هناك اخترعت مصطلحًا جديدًا أسموه «ذهان الذكاء الاصطناعي» حتى يصفوا مثل هذه الحادثة التي فقد فيها المريض قدرته على التمييز بين الواقع والخيال بسبب تفاعلاته مع روبوتات المحادثة. هذه الواقعة فتحت نقاشًا عالميًا حول خطورة الذكاء الاصطناعي على الصحة النفسية، فما يحدث في أمريكا ليس بعيدًا عنا في مصر، فاليوم أي شاب أو مراهق يمكن أن يجلس بالساعات يحكي مع الروبوت بدون أي رقابة، وبدون أن نعرف ماذا يزرع في رأسه؟! وإذا كانت أمريكا بكل إمكانياتها وقوانينها لم تستطع حماية مواطنيها من الخطر الجديد، يجب علينا أن نكون أذكى ونواجه الحقيقة قبل أن نجد أنفسنا في مواجهة مأساة مشابهة ليكون السؤال هل المجتمع المصري مستعد للتعامل مع الجانب المظلم من الذكاء الاصطناعي؟ وهل نحتاج إلى إطار قانوني واضح ينظم التعامل مع الذكاء الاصطناعي بصورة أكبر؟، هذا ما سنحاول الإجابة عليه الآن. مستقبل العلاقة بين الإنسان والذكاء الاصطناعي الذي لم يعد مجرد أداة تقنية، بل تحول إلى عنصر مأساوي يجمع المرض النفسي بالتكنولوجيا المتقدمة، فهذا التحذير لم يعد مجرد مخاوف نظرية، بل تجسد في حادثة مروعة وقعت أحداثها في ولاية كونيتيكت الأمريكية حيث سجلت السلطات ما يُعتقد أنه أول جريمة قتل وانتحار مرتبطة مباشرة بالذكاء الاصطناعي. حيث عثرت الشرطة على جثتي رجل في العقد السادس من العمر ووالدته الثمانينية داخل منزلهما؛ أثبتت التحقيقات أن الابن قتل والدته ثم انتحر لكن المفاجأة أن خيوط الجريمة ارتبطت بمحادثات مطولة أجراها الرجل مع شات جي بي تي مدفوعًا بحالة ذهانية تعمقت عبر محادثاته مع الشات. فمن الناحية النفسية كشفت هذه الحادثة جانبًا حساسًا جدا في علاقتنا بالذكاء الاصطناعي، فالمرضى الذين يعانون من الذهان عادة ما يكون لديهم صعوبة في التمييز بين الواقع والخيال، فالقاتل هنا لم يكن شخصًا عاديًا يمكن أن نقول إن الذكاء الاصطناعي قد أثر فيه؛ فهو شخص عمل سابقا في شركات بارزة مثل ياهو لكنه فقد وظيفته عام 2021 وعانى من اضطرابات نفسية ازدادت سوءًا مع طلاقه وعودته للعيش مع والدته ومع تدهور حالته لجأ إلى شات جي بي تي لساعات طويلة وبدلا من أن يجد من يرشده أو يخفف من هواجسه وجد روبوتا يؤكد أوهامه. وفي تلك الفترة كان القاتل يخبر الشات بأن والدته تحاول تسميمه بالغاز وفيما تتآمر عليه زوجته السابقة، وهنا لم ينفِ الروبوت هذه الأوهام أو يحاول تصحيحها بل سايره فيها وصاغ نظريات المؤامرة واقنعه بها حتى نفذ جريمته. ولم تكن هذه الواقعة الأولى التي يذكر فيها اسم شات جي بي تي في سياق مأساوي أو محرض على الجريمة؛ ففي حادثة أخرى رفع والدان دعوى قضائية ضد شركة أوبن إيه آي بعد انتحار ابنهما البالغ من العمر 16 عاما، والذي تحدث مع الروبوت لعدة أشهر عن أفكاره الانتحارية، لم يكتف الروبوت بعدم ردعه بل قدم له نصائح عن طرق الانتحار وكتب له رسالة وداع لوالديه . الحادثتان سلطتا الضوء على ثغرة كبيرة في أنظمة الذكاء الاصطناعي وهى ميلها للموافقة على ما يقوله المستخدم أو مجاراته، حتى لو كان هذا يعني تأكيد أوهام خطيرة أو تقديم نصائح مميتة. وعى مجتمعى لكن السؤال هنا هل مصر بعيدة عن الخطر؟! رغم أن الحادثتين وقعتا في الولاياتالمتحدة، فإن مصر ليست في مأمن؛ فالتقارير تشير إلى أن استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي بين الشباب المصري في تزايد سريع سواء لأغراض التعليم أو الترفيه أو حتى الفضفضة وفي غياب وعي مجتمعي بالقضية قد نجد أنفسنا أمام سيناريو مشابه لما حدث في كونيتيكت المجتمع المصري يعاني بالفعل من تحديات نفسية واقتصادية ومعظم الشباب يقضون ساعات طويلة على الإنترنت ومع وجود أداة ذكية ترد على أسئلتهم وأفكارهم، حتى الأكثر خطورة منها، قد يشكل تهديدًا كبيرًا إذا لم تتم مراقبته. يقول الدكتور أحمد حسين أستاذ علم النفس: إن هذه الحوادث تكشف خطورة استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي مع أشخاص يعانون من اضطرابات عقلية مثل الذهان أو البارانويا، فمريض الذهان بطبيعته يبحث عن تأكيد لأوهامه، وعندما يجد آلة ذكية تعطيه إجابات تبدو منطقية وتؤكد شكوكه، فإن ذلك يعمق المرض ويجعله أكثر يقينًا بخيالاته، فما حدث في حادث كونيتيكت يوضح كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتحول من مجرد برنامج إلى محفز مباشر لسلوك إجرامي. ويضيف أستاذ علم النفس؛ أن المشكلة في مصر لا تقل خطورة فلدى البعض أمراض نفسية غير مشخصة، والكثير من الناس لا يلجأون إلى الطبيب النفسي بسبب الوصمة الاجتماعية لذلك تخيل لو بدأ هؤلاء الأشخاص في قضاء ساعات مع روبوت محادثة يؤكد لهم كل مخاوفهم ستكون النتيجة كارثية ولهذا يجب أن تكون هناك توعية مجتمعية من خلال إطلاق حملات توعية تشرح المخاطر النفسية لاستخدام الروبوتات لفترة طويلة. كما يجب أن تكون هناك حملات لتدريب الأطباء النفسيين أنفسهم على التعامل مع ظاهرة ذهان الذكاء الاصطناعي. ويؤكد أستاذ علم النفس أن الدور الأكبر يجب أن يكون للأسرة والمدرسة في مواجهة مثل هذه الأفعال من خلال متابعة استخدام الأبناء للتقنيات الجديدة وعدم تركهم فريسة للتجارب العشوائية. تنظيمه أما بالنسبة للوضع القانوني ومن الذي نحمله المسئولية عن هذه الحوادث فتقول يارا طلعت المحامية: قانونيًا ما زالت المسئولية في مثل هذه الحوادث معقدة للغاية حيث أن تحميل شركة مثل أوبن إيه آي مسئولية جنائية مباشرة أمر صعب، لأن الروبوت ليس شخصًا حقيقيًا، والشركة عادة ما تضع بنودًا واضحة في شروط الاستخدام تعفيها من المسئولية عن أي أضرار ناتجة عن المحادثات. وتضيف يارا طلعت المحامية؛ أن الدعوى القضائية التي رفعها والدا المراهق في أمريكا قد تفتح الباب لاجتهادات قانونية جديدة إذا ثبت أن الشركة كانت تعلم بالمخاطر ولم تتخذ التدابير الكافية لحماية المستخدمين فقد تُدان بالتقصير أو الإهمال. أما في مصر فالتشريعات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي ما زالت في بدايتها ولا توجد مواد واضحة تعالج مثل هذه الحالات حتى الآن وهذا ملف مهم يجب أن يتصدى له مجلس النواب القادم؛ حيث أن غياب التشريع سيجعل المجتمع المصري عرضة لمشكلات كبيرة، خاصة مع الاستخدام العشوائي للذكاء الاصطناعي من قبل المراهقين والشباب ولهذا يجب وضع قوانين تنظم استخدام الذكاء الاصطناعي وتحدد مسئولية الشركات والمستخدمين. ومن جانبه يرى خبير التكنولوجيا المهندس كريم صبري؛ أن الخطر الأساسي يكمن في طبيعة تصميم روبوتات المحادثة،فهذه النماذج مبنية على التنبؤ بالكلمات التي يريد المستخدم سماعها وليست قادرة بالضرورة على التمييز بين الوهم والحقيقة ففي المحادثات الطويلة تفقد القدرة على التوازن وتبدأ في مجاراة المستخدم بشكل خطير. ويضيف خبير التكنولوجيا؛ أن المشكلة ليست في الذكاء الاصطناعي كفكرة بل في كيفية استخدامه وفي غياب الفلاتر البشرية التي تراقب مثل هذه التفاعلات فالشركات العالمية بدأت الآن تتحدث عن دمج خبراء صحة نفسية داخل النظام نفسه بحيث يتدخلون عند اكتشاف محادثات مقلقة لكن حتى يحدث ذلك سيظل الخطر قائمًا. اقرأ أيضا: ضحايا «شات جى بى تى» «دردشات» انتهت بحالات جنون وقتل وانتحار عابرة للحدود!