هل تنجح حركة حماس فى اختبار الهدنة، والممارسة السياسية؟ سؤال صعب فى وقت بالغ الحساسية من عمر القضية وفى مستقبل الإقليم، السؤال المطروح الآن على طاولة غزة، بعد طرح الإدارة الأمريكية «خطة من 2021 نقطة» بلسان ترامب، هو: هل تستطيع حماس أن تقول «نعم» بلا هوامشٍ واشتراطات، أم أنها ستقول «نعم... ولكن»؟ ما نعرفه من النصوص والتسريبات أن المقترح الأمريكى يرسم مسارًا سريعًا لوقف النار، وإطلاق الأسرى على دفعات، يعقبه انسحاب إسرائيلى مَرحلىّ، وتأسيس «حُكم انتقالى» مع وعود بممر سياسى نحو حل نهائى على مستوى المواقف المعلنة والمسرّبة، تبدو الحركة فى حالة «تلقى جسّ النبض»: انفتاحٌ تكتيكى أمام الوسطاء العرب وتأييدٍ دولى متزايد، يقابله تحفّظٌ صلب على بنود نزع السلاح وترتيبات الأمن الطويلة وملف الضمانات. بعض التقارير تشير إلى استعدادٍ مبدئى للنظر فى الخطة، وأخرى تتحدث عن رفض باعتبارها «منحازة لإسرائيل»، فيما تُصر مصادر قريبة من الحركة على أن أى هدنة يجب أن تُقود إلى وقف دائمّ للحرب وانسحاب كامل؛ وإلا فهى استراحة محارب تعود بعدها العمليات من نقطة أسوأ. الصورة النهائية: لا قبول نهائيًا ولا رفض قاطعًا حتى اللحظة، بل تفاوضٌ تحت ضغط الوقت والخسائر. لكن ماذا تعنى «هدنة بدون لكن» بالنسبة لحماس؟ عمليًا، تعنى قبول الحزمة كما هى: وقف فورى لإطلاق النار، إطلاق جميع الأسرى خلال 72 ساعة بعد إعلان القبول، تجميد الجبهات، ثم الشروع فى تفكيك القدرات العسكرية وتسلّم «سلطة انتقالية» مدعومة خارجيًا أمنًا وإدارةً، مع انسحاب إسرائيلى مَرحلىّ ومشروط فى المقابل، تتعهد إسرائيل بإطلاق أعدادٍ كبيرة من الأسرى الفلسطينيين، والسماح بإعادة الإعمار، والانكفاء على خطوطٍ متفقٍ عليها. المعادلة الأخلاقية والسياسية، التى تؤرق حماس هنا: هل تنقذ ما تبقّى من مجتمعٍ مُنهك مقابل التخلى عن «ورقة السلاح» الآن، أم تتمسّك بالورقة مع خطر سحق ما تبقّى من قدرةٍ على الحكم والتمثيل؟ من زاوية المكاسب المحتملة، ثمة ثلاث فوائد مباشرة لقبولٍ سريع: أولًا: إيقاف آلة القتل فورًا واستعادة أنفاس المجتمع الغزّى، فكل يوم إضافى يفاقم انهيار النسيج المدنى، ويستنزف ما تبقّى من رأسمال اجتماعى للحركة نفسها. ثانيًا: استرداد الأسرى الفلسطينيين بأعدادٍ كبيرة، وهو مكسب رمزى وسياسى يمكن تحويله لرأسمالٍ داخلى يوازن كلفة التنازلات الأمنية. ثالثًا: فرض إيقاعٍ جديد على إسرائيل: تجميد خطوط التماس، ثم إدخال طرفٍ ثالث فى المعادلة الأمنية والإدارية، ما يضع حدودًا على حرية تل أبيب فى استئناف العمليات متى شاءت. هذه مكاسب ملموسة إذا قُرئت بمنظار (إنقاذ المجتمع قبل المشروع والقضية قبل الحركة). لكن مقابل كل مكسب، تقف مخاطر صلبة: الخطر الأول: هو تجريد بنيوى للقدرة؛ فقبول مسار نزع السلاح والتجفيف الأمنى يهدّد بتحويل الحركة إلى «فاعلٍ اجتماعى» منزوع المخالب داخل نظامٍ أمنى تُشرف عليه قوة تثبيت خارجية. الثانى:مخاطرة الانقسام الداخلى: هل تملك القيادة فى الدوحةوغزة والشتات إجماعًا على هذا التحوّل؟ أى شرخ تنظيمى سيقضم المكاسب ويفتح الباب أمام فصائل أكثر تشددًا أو فوضى أمنية. الثالث: خطر «هدنة من طرف واحد»: إذا كانت صيغة الانسحاب الإسرائيلى المَرحلى تترك لطرفٍ متفوّق القدرة على تعطيل المسار بحجة «خرق أمنى» أو «فشل فى التفكيك»، فإن الحصيلة قد تكون تجميدًا طويلًا بلا انتقال سياسى حقيقى. هنا يتقدّم سؤال الضمانات: ما الذى يجعل «الهدنة بلا لكن» ممكنة؟ تاريخ الجولات السابقة يقول إن الضمان الدولى الصارم - بمزيج من آليات تحقق أممية، وتفويضٍ واضح لقوة تثبيت عربية/دولية، ومظلّةٍ سياسية أوروبية - عربية - هو الفارق بين هدنةٍ تُستأنف بعدها الحرب وهدنةٍ تشقّ طريقًا نحو تسوية. لذلك تسمع من مصادر قريبة من الحركة مطالبةً بضمانات مكتوبة: انسحابٌ كامل ضمن جدولٍ زمنىّ مُعلن، عدم العودة للقصف بذريعةٍ أمنية مطاطية، وإطارٌ سياسىّ يَعدُ بعمليةٍ جدّية نحو الدولة، لا إدارة أزمة دائمة. أما عن «نِقَاط ترامب الإحدى والعشرين»، فالمشكلة ليست فى العدد بل فى البنية: بنودٌ أمنية دقيقة التنفيذ وقابلة للقياس (تسليم، تفكيك، تجميد، انتشار قوة تثبيت) تقابلها وعود سياسية، وما أدراك ما الوعود (مسار دولتين، إعادة إعمار مشروطة، إعادة هندسة الحكم)، لهذا يختلف التقييم فى غزة: البعض يراه فرصةً لوقف النزيف وتثبيت كيانٍ إدارى ينتزع الغزيين من الجحيم، وبعض أبناء الحركة يرونه فخًا يجردها من عناصر القوة وينزع منها السلطة. إذن، هل تقبل حماس «من غير لكن»؟ التحليل الرصين يقول: قبولٌ مشروط بحدٍّ أدنى من «لكن»؛ أى قبولٌ يحفظ ثلاثة أثلاث: ثلثٌ للمجتمع (إغاثة فورية وإعادة إعمار وممرّات عمل)، وثلثٌ للشرعية الوطنية (معنى سياسى لا يذيب الحركة داخل إدارة أمنية مستوردة)، وثلثٌ للأمن (تفكيك تدريجى لقدراتٍ هجومية مقابل ضمانات عدم العودة للحرب). على مستوى الخيارات العملية أمام الحركة، ثمة مسارات وسطية قابلة للتصميم: قبولٌ على مراحل: تُقابِل كل خطوة أمنية بخطوة سياسية - اقتصادية مُلزمة لطرفى النزاع والراعين (إطلاق أسرى، فتح معابر وإدخال مواد إعمار، تفكيك بؤر قتالية، جدول انسحاب مُعلن، إعادة انتشار قوة تثبيت، مرسوم رئاسى/تشريعى فلسطينى يُعيد هيكلة الحكم مع ضمانات عربية). وتفويضٌ جزئى للملف الأمنى: قبول انتشار قوة عربية/دولية محددة المهام والمدة، مع إبقاء الملفات المدنية والخدمية بيد إدارة فلسطينية متوافق عليها، تَمنع الانزلاق إلى «وصاية شاملة». آلية نزاع مُحايدة: هيئة تحكيم أممية - عربية تُفَعَّل خلال 72 ساعة عند كل خلافٍ على «خرقٍ» أو «تعطيل»، لمنع تحويل أى حادثٍ أمنى إلى ذريعة لنسف المسار. يبقى أن نقرأ البيئة المحيطة: إسرائيل، رسميًا، رحّبت بالخطة، لكن مؤسساتها الأمنية - السياسية منقسمة بين مَن يرى فيها «تذويبًا منضبطًا لحماس» ومَن يخشاها «سلّم نزول» من غزة يقيّد حرية المناورة لاحقًا. أما الإقليم، فيميل - لأسباب أخلاقية ومصلحية - إلى إنهاء الحرب، وقد منح القاهرةوالدوحة تفويضًا مضاعفًا لإقفال الجرح فى هذا المناخ. قد تغدو «الهدنة بدون لكن» ممكنة فقط إذا تحوّلت «النقاط الإحدى والعشرون» من بيان نياتٍ أمريكى إلى عقد مُلزم بضمان عربى - أوروبى مشترك.