يُقال إن المنصات الدولية تكشف القادة على حقيقتهم: من يملك مشروعًا يقدم رؤية، ومن يفتقد البوصلة يلجأ إلى الصخب، خطاب دونالد ترامب الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة لم يكن مجرد حدث انتخابى أو مناورة كلامية، بل كان نموذجًا مكتمل الأركان لكيفية تحويل الكذب إلى إستراتيجية، والتضليل إلى أداة حكم، والمبالغة إلى سياسة خارجية فى كل مرة يقف فيها دونالد ترامب أمام المنصات الدولية، يبدو وكأنه يشن معركة شخصية لا لإقناع خصومه بل لتغذية جمهوره الداخلى بخطاب شعبى يقتات على المبالغة، الخوف، ونظريات المؤامرة لكن خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة تجاوز حدود المناكفة، ليصبح مثالًا فاضحًا على كيف تُستغل المنصات الأممية لترويج الأكاذيب، لا لمواجهة الحقائق.. فحين يزعم ترامب أنه أنهى «سبع حروب مستعصية فى سبعة أشهر»، فهو لا يقدم تقريرًا سياسيًا بل يصنع أسطورة شخصية، أسطورة «صانع السلام الخارق» الذى لا يعترف بالتاريخ ولا بالمعطيات، الحقيقة أن النزاعات التى أشار إليها ما زالت قائمة: أوكرانيا مشتعلة، اليمن جرح مفتوح، سوريا وليبيا لا تزالان فى دوامة صراع ما الذى «انتهى» إذًا؟ لم ينتهِ شيء سوى إصرار ترامب على ليّ الحقائق ليخرج بصورة الزعيم الذى يملك مفاتيح العالم. ولم يكتف بهذه المبالغة، بل وجّه مدفعيته نحو المستقبل ذاته، حين وصف الطاقة المتجددة بأنها «خدعة» هنا لا نتحدث عن رأى سياسى بل عن حرب على العلم فالعالم كله – من الصين إلى أوروبا – يتحرك بسرعة نحو الطاقة الشمسية والرياح باعتبارها الأرخص والأكثر استدامة فى لحظةٍ يُفترض أن يناقش فيها العالم أزمات المناخ، يصر ترامب على إنكار بديهيات اقتصادية وبيئية، لأن خطابه يظل أسير لوبيات النفط والفحم التى غذت مسيرته السياسية. خطابه عن أوروبا كان الوجه الآخر للعملة نفسها: «دولكم ذاهبة إلى الجحيم بسبب الهجرة المفتوحة» هذا التعميم الساذج ليس سوى استدعاء لصورة الرعب التى يبيعها ترامب لأنصاره داخل أمريكا: إن الهجرة تعنى الانهيار والحقيقة أن أوروبا شددت قيودها منذ سنوات، وأقامت الجدران، ووقعت اتفاقيات إعادة اللاجئين لكن ترامب لا يحتاج للوقائع، بل لجملة صادمة تُتداول فى نشرات الأخبار وتحقق له هدفًا واحدًا: تحويل الآخر إلى تهديد دائم. بل حتى حين تحدث عن المهاجرين المرحّلين إلى السلفادور، لم يتردد فى وصمهم جميعًا بأنهم «مجرمون» الأرقام الرسمية تقول إن الغالبية العظمى لم يكن لهم سجل جنائي، لكن الخطاب الشعبوى لا يتغذى على الأرقام بل على الوصم إنها إعادة إنتاج لمعادلة ترامب القديمة: المهاجر = مجرم = خطر وفى المقابل، يظهر ترامب نفسه كحامى الحدود وحارس الأمن القومي. أكثر ما كشف عقلية ترامب كان حديثه بعد الخطاب عما أسماه «التخريب الثلاثي»: المصعد المعطل، والتليبرومتر، ونظام الصوت. مشكلات تقنية تحدث يوميًا فى مؤتمرات كبرى تحولت عنده إلى «مؤامرة ضد الرئيس». هنا يظهر جوهر ذهنية ترامب: العالم كله يتآمر عليه، وكل عثرة تقنية ليست خللًا بل «خيانة". إنها نفس الذهنية التى برر بها خسارته الانتخابات عام 2020 باعتبارها «مسروقة». الأممالمتحدة بدورها لم تسلم من هجومه، حين وصفها بأنها «فاشلة بالكامل» ومجرد منصة لتعطيل سيادة الدول. وكأن بعثات حفظ السلام، برامج الصحة العالمية، ووكالات الإغاثة لا وجود لها هذا الخطاب ليس نقدًا مشروعًا لمؤسسة دولية مثقلة بالبيروقراطية، بل محاولة لتقويض فكرة العمل الدولى المشترك من جذورها، ليبقى البديل الوحيد: «أمريكا أولًا» بمعناها الانعزالى والفوضوي. إن ما فعله ترامب فى خطابه الأخير لم يكن مجرد استعراض انتخابي، بل رسالة مزدوجة: إلى الداخل الأمريكى بأنه وحده القادر على «كشف الأكاذيب» و«حماية الأمة»، وإلى العالم بأنه غير معنى بالقانون الدولى ولا المؤسسات المتعددة الأطراف لكن المفارقة أن كل ما قدّمه كان سلسلة من الأكاذيب التى انكشفت سريعًا بالحقائق والأرقام.