فى الشرق الأوسط لا يختبئ الشيطان فى التفاصيل، بل يقيم علنًا فى تل أبيب ويحمل اسم بنيامين نتنياهو ويشغل منصب رئيس وزراء إسرائيل. لا تعرف إذا كان سياسيًا أم رجل دين، ذئب فى ثياب حاخام يستغل نصوص العهد القديم فى تبرير القتل وسفك الدماء والسطو على أراضى الآخرين وتهديد كل جيرانه بالدمار والخراب. يحتمى بالولاياتالمتحدة رغم أن سياستها الخارجية تدّعى أنها لا تتعامل مع الطغاة المستبدين، المتشبثين بالسلطة، بينما هو أطول رؤساء وزراء إسرائيل بقاءً فى الحكم وأكثرهم دمويةً وهربًا من ملاحقة القانون الدولى، يتولى منصبه منذ عام 1996، يتوارى أعوامًا قليلة ثم يعود كابوسًا أثقل، يُلقبونه «بيبى» تملقًا أو سخريةً، لكن الحقيقة أن أفعاله لا تمت بصلة إلى أى معنى وديع؛ إنه الشيطان الذى تخطى فى وحشيته كل من سبقوه من قادة الاحتلال منذ بن جوريون وحتى اليوم. فى مشهد ينتمى إلى مسرحيات القرون الوسطى، خرج نتنياهو بعد أحداث 7 أكتوبر، ككائن جحيمى يستحضر الخراب ليُسكت به خصومه ويُعيد تثبيت سلطته المتداعية، فجعل من غزة محرقة مفتوحة، واستباح جنوبسوريا، وعاث فسادًا فى جنوبلبنان، وهاجم اليمن وإيران، يستفز هنا ويقصف هناك. حوَّل المسرح الإقليمى إلى ساحة مشتعلة لا أمل فى إطفائها، شيطان يُشعل الحروب ليبقى، يُوزع الخراب، ويصنع من الدم وقودًا لعرشه المترنّح، لم يعنه أمر أسراه، ولم يلتفت إلى كل فرص السلام التى وُضعت أمامه، بل تجاهل صرخات الأمهات اللاتى يُساق أبناؤهن إلى جبهات قتال جيش الاحتلال قسرًا، ليكونوا وقودًا لحرب لا تخدم إلا بقاءه الشخصى، وكأن دماء شعبه نفسه جزء من ثمن سلطته. المدقق فى أداء نتنياهو خلال الأشهر الأخيرة يمكنه تمييز وقوعه فى أزمة كبيرة، وأن طريقه للخروج منها هو استمرار الحرب وتدمير الوساطة وإحراق كل مراكب السلام وتصدير الأزمات إلى الآخرين، ويتبع فى ذلك عدة طرق هى: 1- استراتيجية البقاء السياسى عبر إطالة أمد الحرب فى غزة؛ لتأجيل محاسبته عن فشل توقع هجوم 7 أكتوبر، وتأجيل إجراء انتخابات مبكرة كان سيُهزم فيها حتمًا، حسب استطلاعات الرأى. 2- وضع مصلحة بقاء الحكومة على مصلحة أهالى الأسرى عبر رفض كل صفقات تبادل الرهائن، لإرساء حلفائه من اليمين المتطرف. 3- وضع جيش الاحتلال تحت ضغط القتال على جبهات متعددة؛ هربًا من مواجهة حتمية يلقى فيها كل طرف اللوم على الآخر وتبادل مسئولية الفشل فى تحقيق أهداف الحرب بشكل كامل وفى التخطيط ليوم ما بعد الحرب، وبحسب تسريبات نشرتها الصحف الإسرائيلية ألقى نتنياهو باللوم على المؤسسة الأمنية فى الفشل الذى لحق بكل خططهم فى غزة. 4- من أجل البقاء فى الحكم والهروب من الملاحقة أصبح نتنياهو رهينة لشركائه فى الائتلاف الحكومى، وخاصةً وزير الأمن إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، وتهديدهم الدائم بإسقاط الحكومة إذا تمت أى خطوة نحو تسوية سياسية أو إذا تم التوصل إلى صفقة شاملة لتبادل الرهائن. 5- يسمع نتنياهو بأذنه صوت الاحتجاجات الشعبية المستمرة فى القدس وتل أبيب ومطالب المتظاهرين بإجراء انتخابات فورية، وإعطاء الأولوية لصفقة لإطلاق سراح الرهائن، وإقالته مع تحميله المسئولية السياسية عن فشل السابع من أكتوبر، وهى أمور تدفعه أكثر إلى اتخاذ قرارات ومواقف أكثر عدوانية تجاه كل جيرانه حتى وصل الأمر إلى قصف الدوحة، الشريكة فى الوساطة، والدولة الخليجية ذات العلاقات المميزة مع الولاياتالمتحدة. الاعتراف الدولى بالدولة الفلسطينية يُضيّق الخناق حول نتنياهو كما لم يحدث من قبل طوال تاريخه الدموى، سكان غزة يتمسكون بأرضهم، الرهائن محتجزون وهو غير قادر على الوصول لهم رغم كل التدمير، ومصر ترفض التهجير القسرى وأى حديث عن إعادة توطين الفلسطينيين فى أماكن أخرى، والعلاقات معها تسوء يومًا بعد يوم، حتى الولاياتالمتحدة بدأت تنزعج من خطواته، وتستشعر أنها غير محسوبة وتضر بمصالحها على المدى البعيد حتى إدارة ترامب التى طالما وُصفت بأنها الأقرب إلى إسرائيل لم تُخفِ انزعاجها، فبعد الضربة الإسرائيلية على الدوحة، قال ترامب صراحةً: «أنا غير سعيد للغاية بكل جانب من جوانبها. لست مسرورًا إطلاقًا من الموقف برمته»، وأضاف: «لم تساعد إسرائيل وبالتأكيد لم تساعدنا نحن»، مشددًا على أن القرار كان منفردًا من نتنياهو، وأن الولاياتالمتحدة لم تمنح الضوء الأخضر، وأنه شخصيًا لم يُبلّغ بالعملية فى وقت مناسب لتجنّب تداعياتها، وهو ما كشف لأول مرة عن فجوة حقيقية فى التنسيق بين الطرفين، فضلًا عن الضيق الأمريكى من الاستنزاف المستمر لقدراتها العسكرية فى معارك جيش الاحتلال وعجزه الواضح عن تحقيق أى انتصار، بل تزيد من سلة الجرائم ضد الإنسانية المتهم فيها نتنياهو وشركاه. ومع تضييق الخناق أكثر على نتنياهو، لم يجد ملاذًا سوى الهروب إلى اللغة الأسطورية والرموز الدينية. ففى أكثر من خطاب، شبّه إسرائيل بمدينة أسبرطة الصغيرة، الدولة المحاربة التى تعيش بالسيف وتفتخر بصمودها فى مواجهة الأعداء. ولم يكتفِ بذلك، بل استحضر من التوراة قصة العماليق من سفر صموئيل، حيث أمر النبى شاؤول بمحاربتهم وإبادتهم، محاولًا مساواة حماس بالعماليق، ومقدّمًا الحرب على غزة ليس كعملية عسكرية لحماية الدولة، بل ك «حرب مقدسة» ووصية دينية ضد أعداء إسرائيل. إنه توظيف واضح لنص دينى لأغراض سياسية وعسكرية، لا يختلف فى جوهره عن أساليب الجماعات الإرهابية التى تبرّر العنف بالدين. وبينما يُروّج نتنياهو بكل ما يملك من أدوات إعلامية وسياسية لعملية «عربات جدعون 2»، والتلويح بإعادة احتلال غزة، يجد نفسه فى مواجهة ضغوط داخلية غير مسبوقة: احتجاجات الشارع الإسرائيلى تتواصل، تصدعات داخل الجيش، ورفض عائلات الأسرى لسياساته التى يدفعون ثمنها دمًا كل يوم. وعلى الصعيد الخارجى، تتزايد عزلة إسرائيل بالتوازى مع القرارات الدولية لفتح ملفات جرائم الحرب أمام محكمة العدل الدولية، فيما تنهش الأزمة الاقتصادية قدرة إسرائيل على تحمل حرب طويلة ومكلفة. وهكذا، بدلًا من أن تمنحه هذه الحرب رصيدًا سياسيًا جديدًا، كشفت عن عجزه وتركته محاصرًا بخطاب دموى وأساطير قديمة، ولم يعد أمامه سوى مقامرة يائسة فى غزة ومحاولة تصدير الأزمة إلى مصر، وإشعال الإقليم بحرب لا أحد يعرف مداها.