لم يعد الموقف الإسباني من العدوان الإسرائيلي مجرد تصريحات أو إشارات سياسية، بل تحوّل إلى خطوات قضائية واضحة تحمل رسالة مزدوجة: إلى المجتمع الدولى من جهة، وإلى إسرائيل من جهة أخرى، إعلان النيابة العامة فى مدريد عن فتح تحقيق رسمى فى جرائم الحرب والانتهاكات الإنسانية فى غزة، بالتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، يمثل نقلة نوعية فى لغة التعامل الأوروبى مع العدوان فالمدعى العام الإسبانى أصدر مرسومًا بتشكيل فريق عمل لجمع الأدلة وتوثيق الانتهاكات، تمهيدًا لتقديمها للهيئات القضائية الدولية هذا القرار لا يقتصر على بعده القانوني، بل يعكس إرادة سياسية متنامية داخل أوروبا، تقودها إسبانيا، لمحاسبة المسؤولين الإسرائيليين على جرائمهم، بعد أن صارت صور الدمار والضحايا فى غزة أكبر من أن تُحجب أو تُبرر. اللافت أن هذا القرار جاء فى توقيت شديد الدلالة بالتزامن مع زيارة ملك إسبانيا إلى القاهرة. فالزيارة لم تكن بروتوكولية، بل حملت رسائل عبرت عن عمق العلاقات الثنائية وتطابق وجهات النظر فى لحظة مفصلية. فمصر الدولة التى دفعت ثمنًا باهظًا لحماية القضية الفلسطينية، وجدت فى الموقف الإسبانى صدى دوليًا لمطالبها المتكررة بضرورة وقف الانتهاكات وفتح مسار حقيقى للمحاسبة والنتيجة أن القاهرةومدريد أظهرتا – كل من موقعه – أن هناك إمكانية لبناء جبهة دولية تُعيد التوازن فى وجه الرواية الإسرائيلية، وتفتح الباب أمام عدالة مؤجلة لكنها تقترب. إسبانيا لم تبدأ اليوم ففى مايو 2024، اعترفت رسميًا بدولة فلسطين على حدود ما قبل 1967، متحدية الضغوط والانتقادات الإسرائيلية، وذلك بعد اتصالات ولقاءات قبلها جمعت بين الرئيس السيسى وبيدرو سانشيز رئيس الوزراء الإسبانى. ولا يمكن فصل هذا المسار عن التطورات الأممية الأخيرة نحن إذن أمام لوحة متكاملة: محكمة جنائية تطلب المحاسبة، أمم متحدة تدين، وإسبانيا – ومن خلفها دول أوروبية أخرى – تبدأ فى تحويل الإدانة إلى آلية قانونية نافذة والنتيجة أن صورة إسرائيل تتغير تدريجيًا من «دولة تدافع عن نفسها» كما تدعي، إلى «مجرم حرب» فى نظر القانون الدولي. أهمية ما يحدث اليوم أنه يفتح الباب أمام تحالف غير تقليدي: الدول العربية التى تدعو إلى التهدئة ووقف العدوان، والدول الأوروبية التى بدأت تفقد صبرها أمام حجم الجرائم الإسرائيلية، يمكن أن تلتقى على أرضية مشتركة زيارة الدولة التى يقوم بها ملك إسبانيا مصطحبًا زوجته لعدة أيام إلى القاهرة والتنقل بين معالمها الحضارية فى هذا التوقيت ليست مصادفة؛ فهى رسالة أن القاهرة قادرة على توظيف ثقلها الإقليمى والدولى لبناء سردية يتم تداولها واعتمادها بين العواصم المختلفة انتصاراً للحق الفلسطينى. نحن إزاء ثلاثة مستويات متراكبة من التصدى للغطرسة: (1) مستوى قانونى دولى ينتقل من «احتمال التجريم» إلى «أدوات التنفيذ» بتجميع الأدلة والتعاون بين هيئات إدعاء وطنية (2) مستوى أوروبى تتقدمه مدريد نحو تحويل الاستنكار إلى سياسات (حظر السلاح، قيود العبور، وطرح أوراق التجارة على الطاولة)؛ (3) مستوى إقليمى تعيد فيه القاهرة تموضع الوساطة رغم محاولات تقويضها، فتمنح المسار القانونى معنىً سياسيًا ونافذة تطبيق حين تتعاضد هذه المستويات، تتقلص مساحة «الهروب إلى الأمام» التى اعتمدتها تل أبيب طويلًا عبر إطالة أمد الحرب وتوسيع ساحاتها. هل يعنى ذلك أن الغد سيحمل أوامر توقيفٍ قابلةً للتنفيذ الأوروبى على الفور؟ لا مبالغة هنا: المسار شاقّ، ويحتاج توافقات داخل الاتحاد، وتحملًا لضغوطٍ أمريكية وإسرائيلية، ونَفَسًا قضائيًا طويلًا. لكن المعنى الاستراتيجى تحقّق: انكسرت «قدسية الحصانة» التى أحاطت طويلًا بصناع قرار الحرب فى إسرائيل، ما تفعله إسبانيا اليوم ليس «انفعالًا تضامنيًا»، بل بناءُ هندسةٍ قانونية وسياسية تتسق مع اعترافها بفلسطين ومن هنا، تتقدّم قضية فلسطين خطوةً نحو «عدالةٍ بطيئة» لكنها ممكنة.