حين انطلقت الحرب كان الشعار الإسرائيلى واضحًا: «القضاء على حماس» كان الهدف محدَّدًا، قابلاً للقياس، ومُسوَّقًا عالميًا بوصفه ردًا دفاعيًا على صدمة 7 أكتوبر لكن مسار الأحداث، ولغة الفعل والخطاب معًا، تكشف أن الأفق بات أبعد بكثير من حدود غزة أو «إنهاء» تنظيمٍ بعينه «نحن نُغيِّر وجه الشرق الأوسط»؛ بهذه العبارة لخَّص بنيامين نتنياهو الطموح الحقيقي، لا فى لحظة انفعال، بل كتصوّر إستراتيجى يتكرّر منذ شهور: حرب على خرائط التأثير الإقليمي، وعلى بنية الردع، وعلى معادلات ما بعد الحرب لا على الحرب وحدها .. وإذ تتزاحم المبادرات لوقف إطلاق النار، تُظهر الوقائع أن رئيس الوزراء الإسرائيلى يلتقط كل فرصة لإجهاضها أو تأجيلها، لأن إنهاء الحرب الآن يقيِّد مشروع «إعادة التشكيل» الذى يرفعه شعارًا ويطبِّقه قصفًا. ما الذى تعنيه «إعادة تشكيل الشرق الأوسط» فى القاموس الإسرائيلى الراهن؟ أوّلًا، توسيع ساحة الاشتباك خارج غزة لتأديب أطراف «محور» كامل، وفرض معادلة ردع تتجاوز حدود المواجهة التقليدية لذلك رأينا مسرح العمليات يمتدّ إلى لبنان وسوريا واليمن... وصولًا إلى سابقة خطِرة: ضرب الدوحة، عاصمة دولة وسيطة محورية، بذريعة ضرب قيادات لحماس مقيمة هناك .. هذه الضربة لم تكن مجرّد رسالة تكتيكية، بل كانت إعلانًا بأن إسرائيل مستعدّة لتحطيم أطر «قواعد اللعبة» حتى داخل العواصم الخليجية إذا اقتضت رؤيتها للردع ذلك.. ولم يكن غريبًا أن يُصدر مجلس الأمن بيانَ إدانة نادرَ اللهجة، مدعومًا من الولاياتالمتحدة، معتبرًا أن الضربات على قطر تُقوِّض الوساطة وتدفع نحو التصعيد بدل التهدئة .. بهذه الحركة، كسب نتنياهو جولة فى معركة «الهيبة»، لكنه خسر رأسمالًا دبلوماسيًا مهمًا، وأصاب قنوات الوساطة فى مقتل. ثانيًا، تقوم «إعادة التشكيل» على إدامة لحظة السيولة الإقليمية .. وكل مبادرة لوقف النار تهدّد هذا الهدف، لأن الهدنة تفتح باب «اليوم التالي»: ترتيبات إدارة غزة، مصير الأسرى، إعادة الإعمار، وتركيب سلطة فلسطينية قابلة للحياة. هذه ملفات صعبة داخليًا على نتنياهو؛ فالهدنة الدائمة تُفجِّر ائتلافه وتضعه أمام مساءلاتٍ قضائية وسياسية، فيما الحرب تُبقى قاعدته متماسكة وتسمح له ببيع «الإنجازات» الأمنية للجمهور لهذا تحدّثت تقارير إسرائيلية ودولية، منذ العام الماضي، عن نمطٍ متكرر من تعطيل صفقات التبادل ووقف النار بإضافة شروطٍ فى اللحظة الأخيرة أو بتشديد العمليات فى توقيتاتٍ حسّاسة .. السياسة هنا ليست «عجزًا عن الاتفاق» بل «قرار بإبقاء الحرب أداة سياسية». فى المقابل، ماذا تريد حماس؟ لا معنى لأى تحليلٍ يتجاهل أن الحركة تقاتل أيضًا من أجل «شكل بقاء» ف«اليوم التالي» الذى تُصرّ عليه إسرائيل ويرعاه الوسطاء يهدّد احتكار حماس لإدارة القطاع أى صيغةٍ تقضم سلطة الحركة أو تُدخل ترتيباتٍ أمنية وإدارية مشتركة تجعل تموضعها بعد الحرب أقلّ من «سيطرة»، وأكثر من «حضور». لذلك تعمل حماس على إبقاء أوراق الضغط حية: عملياتٌ نوعية فى الضفة والقدس، وقصف رمزى يثبت «القدرة»، وخطابٌ تفاوضى مرنٌ فى العلن لكنه حازم فى خطوطه الحمراء على الأرض .. ليس صدفة أن تأتى عملية القدس قبيل مسارات تفاوض جديدة، وأن تعلن إسرائيل بعدها مباشرة ضرب «مقر حماس» فى الدوحة؛ مشهدٌ يقول: إن الطرفين يرفضان الدخول إلى قاعة التسوية من موقعٍ ضعيف، وإن التصعيد يخدم لحظة التفاوض بقدر ما ينسفها .. وحتى عندما أعلنت حماس قبول مقترح وساطة عربى لوقف إطلاق النار، بقيت الجملة الإسرائيلية الرسمية: «سنواصل حتى هزيمة الحركة» هكذا تبقى الهدنة «ممكنة على الورق» و«مرفوضة بالوقائع». لا يعنى هذا تبرئة أحد، بل تشريح بنية المصلحة من جهة إسرائيل، الحرب صارت منصّة لإرسال رسائل أبعد من غزة. هنا يطلّ خطاب نتنياهو عن «إعادة تشكيل شرق أوسط جديد» العبارة ليست مجرد زهوٍ سياسي؛ إنها خريطة طريق لفصلٍ جغرافى جديد تُمحى فيه الأعراف التى قيدت إسرائيل لعقود: حدود الردّ، حرمة العواصم، إدراج الوسطاء فى خانة «الطرف غير المنيع». ضرب الدوحة لم يكن نزع قفازٍ دبلوماسى فحسب، بل إعادة تعريفٍ عدوانية لمسرح الصراع، تجعل من أى بلدٍ مضيفٍ للوساطة «ساحة مشروعة» إذا لزم الهدف الأكبر. ذلك يقود إلى كلفة استراتيجية: إذا تهشّم «بيت الوساطة»، فأى ممرّ سيُستخدم غدًا لتفكيك العقد؟ وإن صارت العواصم الخليجية طرفًا مباشرًا فى احتكاكٍ عسكري، فأى ضماناتٍ تبقى لمسار «الاستقرار مقابل التنمية» الذى بشّرت به اتفاقات الأعوام الماضية؟ ليس غريبًا أن يقرأ كثيرون الضربة على أنها تقويضٌ لفرص الصفقة الأكبر، وأن يعتبر مجلس الأمن — بإجماع نادر — أن هذا المسار يهدّد الرهانات على إطلاق سراح الأسرى وإنهاء معاناة غزة. فى الجهة الأخرى من المرآة، تتصرّف حماس كتنظيمٍ يتقن فنون «الرمزية القاتلة»: عمليةٌ مُحكمة فى توقيت تفاوضى قاتل تمنح الحركة القدرة على القول إنها ما زالت «حاضرًا ميدانيًا»، وتُربك إسرائيل وتشدّ من عصب جمهورها ، غير أن هذا التكتيك يدفع دائمًا نحو عقابٍ جماعى يلتهم أهالى غزة. لكن ثمّة فارق لا يجوز تبديده فى الضجيج: مسئولية القوة. من يملك التفوّق العسكرى والأدوات السيادية يتحمّل عبئًا مُضاعفًا فى خفض التصعيد لا فى توسيع مسارحه. حين تُقصف الدوحة — وهى بوابة مركزية للوساطة — فإن الرسالة لا تُصيب حماس وحدها، بل تضرب فكرة «المخرج» نفسها. وإذا استمرّ نتنياهو فى استخدام شعار «تغيير وجه الشرق الأوسط» ستارةً لإطالة الحرب، فالمحصّلة العملية ستكون شرق أوسط أقلَّ استقرارًا، وأكثر قابلية لانفجارات متناسلة من لبنان إلى البحر الأحمر. وعندما تردّ حماس بعملياتٍ تُعيد تدوير منطق «الورقة الدموية فى التفاوض»، فهى تضع عموم الفلسطينيين رهائن من جديد، وتمنح تل أبيب مزيدًا من الذرائع لإطالة أمد النار. السؤال الأخلاقى والسياسى هنا واحد: أى مشروع حكمٍ أو ردعٍ يُبنى على ركام المجتمعات؟ وأى «شرق أوسط جديد» يُولد من تسعير الفوضى لا من إدارة التوازن؟ المفارقة أن شروط إنهاء الحرب ليست غائبة: مقترحاتٌ مدعومة عربيًا لوقف إطلاق النار، ترتيباتٌ انتقالية ل«اليوم التالي» تضمن أمن إسرائيل وتفكك البيئة القتالية فى غزة، مساراتٌ لإعادة الإعمار مقابل التزامات أمنية وسياسية واضحة. لكن النافذة تضيق كلما تعمّدت تل أبيب ضرب الوسطاء وكلما عادت حماس إلى إثبات «القدرة» بعملياتٍ نوعية. هكذا يلتقى منطقان متباينان فى نتيجة واحدة: إدامة حرب تُنتج حقائق ميدانية قد تُصبح «قدرًا سياسيًا»، فيما يُدفن البشر تحت معادلات «الردع» و«الشرعية» و«البقاء».