منذ أن لفظ الشعب المصرى جماعة الإخوان خارج المشهد السياسى وأسقط مشروعها فى 2013، لم تتوقف محاولات التنظيم للهروب من استحقاقات الواقع مرة عبر العنف، مرة عبر الترويج المضلل فى الإعلام الغربي، ومرة ثالثة عبر محاولات الظهور بوجه «المراجعات» و«المصالحات» واليوم، تطل علينا نسخة جديدة من نفس اللعبة، يقودها الهارب أيمن نور بالتنسيق مع القيادى الإخوانى محمد عماد الدين صابر، تحت لافتة «مبادرة للمصالحة» لا هدف لها سوى إنقاذ التنظيم من خطر تصنيفه ككيان إرهابى فى الولاياتالمتحدة وأوروبا. قد تبدو الكلمة للوهلة الأولى مغرية: «مراجعات» و«مصالحة» و«انفتاح سياسي» لكنها فى الحقيقة ليست سوى ورقة ضغط جديدة تحاول الجماعة أن تبيعها للخارج فالمخطط يقوم على تسويق الإخوان فى صورة «معارضة سياسية»، لا جماعة إرهابية، وتقديم رسائل مصطنعة لدوائر القرار الغربية كى تخفف من اندفاعها نحو تصنيف الجماعة فى قوائم الإرهاب. الهدف مزدوج: تخفيف الضغط القانونى والمالى على التنظيم الدولي، وإظهار الدولة المصرية فى صورة «المتعنت الرافض للحوار» . لكن كل ما فى المشهد يفضح أهدافهم، «المراجعات» فى تعريفها الأخلاقى والقانونى ليست ورقة علاقات عامة تُغلف خطابًا قديمًا بورق سيلوفان جديد، المراجعات عمليةٌ مؤلمة تبدأ من جملةٍ واحدة لم نسمعها يومًا بصدق: «أخطأنا»، تليها جراحاتٌ صعبة فى بنية التنظيم؛ من نقدٍ صريح للعنف بوصفه نهجًا لا استثناء، إلى تفكيك شبكات التمويل العابرة للحدود، إلى تسليم المطلوبين للعدالة، إلى تعهّدٍ مكتوب لا لبس فيه بالقبول بقواعد الدولة الوطنية والاحتكام الكامل للقانون والدستور، لا لشرط «التمكين» ولا لفقه الغلبة ما عدا ذلك محضُ تبييضٍ سياسى. ومن يقرأ التوقيت يدرك أن «المبادرة» لا تعكس صحوة ضميرٍ بقدر ما تجيب عن مأزقٍ وجودى فموجات التدقيق القانونى والإعلامى فى أوروبا تزداد كثافة، وملفات الدعم الأيديولوجى للعنف تُكشف أمام برلمانات ولجان تحقيق، وملف التمويل الخيرى الذى تحوّل فى حالاتٍ عديدة إلى تمويلٍ سياسى موارب بات على الطاولة. الأخطر أن هذا الإخراج يستند إلى هندسة خطابٍ مصمّم بعناية للغرب: تزييف ثنائية «نحن معارضة سياسية»، «خصمنا سلطةٌ ترفض الحوار» أى أن الغاية ليست بناء جسرٍ إلى الداخل المصرى بقدر ما هى صناعة ملف دفاعٍ فى الخارج. وأحسب أن الدولة المصرية، وقد خبرت هذا النمط من المناورات طويلًا، لا يلزمها عناءٌ كبير لكشف الفخ، القاعدة البسيطة التى يجب أن تبقى حاكمة هى أن العلاقة بين الدولة وأى طرفٍ داخلى تبدأ من «الاعتراف بالقانون» لا من «تفاوضٍ فوق القانون» لا فائدة من «حوارٍ سياسي» مع تنظيمٍ لم يجرِ عليه الإصلاح المؤسسى والقيمى من داخله؛ لأنك تتحاور مع واجهةٍ تتبرأ من يدٍ وتدير بأخرى وإذا كان لا بد من صيغةٍ لإغلاق دوائر الصراع المفتوحة، فلن تكون أبدًا فى غرفٍ خلفية تُدار بمنطق المقايضة، بل فى ساحات العدالة العلنية، حيث تُقال الوقائع، ويُحمَّل المسؤولون تبعات قراراتهم، وتُحفظ حقوق الضحايا كاملة. سيقال إن السياسة فن الممكن، وهذه حجةٌ تُحترم إذا انطلقت من حقيقةٍ لا من خداع المرونة السياسية لا تعنى أن تُسلّم الدولة رقبتها لمنطق «اختبار النوايا» الغامض، ولا أن تُعيد تدوير خطرٍ مجرّب تحت وطأة رغبةٍ دولية فى «التطبيع» مع كل شيء المرونة تعنى أن تفتح الدولة أبوابها لكل مواطنٍ فردٍ يختار السلم والقانون طريقًا، وأن تُغلق الأبواب فى وجه كل تنظيمٍ سريّ عابرٍ للقانون يطلب «شرعيةً جماعية» دون ثمنٍ أخلاقى وقانونى ما عدا ذلك ليس سياسةً بل مغامرة. ومع ذلك، ليست الدعوة إلى الحزم دعوةً لإغلاق العيون العكس تمامًا: المطلوب يقظةٌ باردة أن تفكّك الدولة خطاب «المراجعات» بندًا بندًا أمام الرأى العام المحلى والدولي.. لا نأسف على الإزعاج... لأن قول الأشياء بأسمائها أوضح وأنفع من تلطيفها: من أراد مراجعةً فليلتحق بساحات القانون ويقتلع مشروع «التنظيم» من جذوره ويعترف بالضحايا قبل أن يطلب مقعدًا فى السياسة وما عدا هذا، فبضاعةٌ قديمة بثوبٍ دبلوماسى جديد، وواجب الدولة والمجتمع أن يروها كما هي، لا كما يُراد لهم أن يروها.