تُعاد هندسة النظام الدولى خارج وصاية القطب الواحد وليس أدل على ذلك من عبارة دونالد ترامب الأخيرة -التى قال فيها إن الولاياتالمتحدة تبدو كأنها «خسرت الهندوروسيا لصالح الصين»- كانت العبارة اعترافًا صريحًا بأن هندسة التحالفات تتحرك الآن بعيدًا عن مركز الجاذبية الأمريكي، وأن «مثلث آسيا الأكبر» (بكين- موسكو- نيودلهى) ينسج خيوطًا عملية لزمن بعد الأحادية. جاءت الجملة فى سياق مشاهد قمة منظمة شنغهاى للتعاون، حيث وقف قادة الهندوروسيا إلى جوار شى جين بينج قبل أن تُستكمل اللقطة بتصاعد نزاعٍ تجارى أمريكى- هندى. المُحصلة السياسية لا تحتاج ترجمة: رقعة الشطرنج تغيّرت، والبيادق القديمة لم تعد تصطفّ كما تشتهى واشنطن. فى الصين، أغلقت قمّة شنغهاى فى تيانجين (31 أغسطس - 1 سبتمبر) دائرة رمزية مهمّة: المنظمة التى وُلدت كترتيب أمنى حدودى باتت تُناقش البنوك الإنمائية، وأدوات السداد، وسندات مشتركة، وبنى تحتية للطاقة الخضراء. اقترح فلاديمير بوتين إصدار «سندات مشتركة» داخل إطار شنغهاى وبناء منظومة تسوية وإيداع مستقلة؛ على الضفة المقابلة، طُرح توسيع استخدام الرنمينبى -الاسم الرسمى للعملة الصينية- فى تسويات الطاقة، كخطوة عملية تقوّض «مركزية الدولار» فى التجارة الإقليمية.. ليست هذه تفاصيل تقنية؛ إنها ملامح اقتصادٍ سياسيّ جديد يُحصّن التكتّل من صدمات العقوبات ويمنحه استدامة تمويلية، وهو ما يعنى بلغة الجغرافيا السياسية: قدرةً أكبر على استقلال القرار. على خطٍ موازٍ، تُعيد «بريكس» تعريف نفسها من نادٍ رمزى إلى بنية مؤسسية ذات أدوات: توسّع العضوية منذ 2023 فتح الباب أمام الاقتصادات العربية والإفريقية الكبرى، وتحت رئاسة البرازيل دُفع ملف «صندوق ضمان» استثمارى جديد يُدار عبر بنك التنمية الجديد (NDB) لتحفيز رءوس الأموال الخاصة وتخفيض كلفة التمويل فى الدول الأعضاء. البنك نفسه صعّد خلال 2024 وتيرة الإقراض وبدأ، قبل ذلك، التحرّك نحو الاقتراض والإقراض بالعملات المحلية لتخفيف أثر العقوبات وتقلبات الدولار.. هذا ليس خطاب «فكّ الارتباط» بقدر ما هو «تنويع المخاطر» وبناء جسورٍ بديلة للسيولة. لحظة «انتفاضة الجنوب» لا تتجلى فى الشعارات، بل فى «أدوات» تُقاس: قنوات تسويةٍ بديلة، وسندات محلية، وممرات لوجستية، وبنوك تنموية، وتكاملٍ طاقه يتجاوز خطوط الإمداد التى أمسك بها الغرب لعقود داخل آسيا، تتقدّم محاولات توطين التسويات بالعملات المحلية فى تجارة الطاقة والسلع؛ وخارجها، يتسع نطاق مبادرات الربط (من السكك العابرة للقارات إلى موانئ المحيطين) حتى عندما تتعثّر «رغبة إلغاء الدولرة» على المستوى العالمي، فإن التراكم الجزئى -بالصفقات الثنائية والمبادرات القطاعية- يراكم أثرًا سياسيًا بمرور الوقت لذلك يُفهَم لماذا صارت نقاشات «العملة المشتركة» أقل إلحاحًا من نقاشات «المدفوعات المحلية» و«تكاليف التحوّط»؛ إنه تحوّل من حلمٍ أيديولوجى إلى ميكانيكا عملية لإدارة المخاطر. فى المقابل، تخطئ واشنطن حين تتعامل مع المشهد ك«انحراف مؤقت» يمكن تصحيحه برزمة تعريفاتٍ جمركية أو صفقةٍ ثنائية سريعة فالتعريفات الأخيرة على صادرات الهند، مثلًا، تُصعّد كلفة الانحياز لواشنطن فى لحظة تحاول فيها نيودلهى تعظيم مكاسبها من التجارة مع روسيا وشرق آسيا.. هنا تظهر مفارقة السياسة الأمريكية: تريد الهند «شريكًا وظيفيًا» ضد الصين، لكنها تُعاقبها تجاريًا فى الداخل؛ تريد «قيادة معيارية» للنظام المالي، لكنها تُكثّف استخدام السلاح المالى خارج قرارات مجلس الأمن، فتدفع البلدان -عن وعيٍ دفاعي- لبناء منصّاتٍ موازية تقلّل التعرّض للمركز الأمريكي. هل يعنى ذلك انهيار الولاياتالمتحدة؟ لا، لكنه يعنى تآكل أدوات القدرة لفرض الإرادة منفردة القوة العسكرية والاقتصادية لا تكفى عندما تتبدّل جغرافيا الاعتماد المتبادل: حين تتسع أسواق التمويل البديلة، وتظهر خطوط تأمينٍ خارج منظومات الغرب، وتتوفّر قنوات تسويةٍ لا تمرّ بنيويورك أو بروكسل، تصبح «كلفة العصيان» أقل من السابق -وهذه هى قفزة التوازن النوعية التى يصنعها الجنوب اليوم- إن ما يجرى هو انتقالٌ من «نظام مركز- أطراف» إلى «شبكات مصالح» كثيفة العقد؛ من محورٍ واحد إلى منتديات مترابطة (شنغهاي، بريكس، آسيان، الاتحاد الإفريقي...) تتقاطع فى ملفات الطاقة والبنية والتمويل، وتلوّن مسارات العولمة بدلًا من كسرها. مع ذلك، يحتاج الجنوب إلى واقعية كى لا يقع فى مبالغةٍ معاكسة فالدعوات الطموح لإحلال عملاتٍ جديدة أو تجاوز الدولار كليًا تصطدم بقيود السيولة، وعمق الأسواق، وقابلية التحويل، وقدرة المصارف المركزية على إدارة الصدمات لذا فإن الطريق الذى اختاره الفاعلون الأذكياء ليس «البديل الكامل الآن»، بل «الارتكاز المتدرّج» عبر ثلاث خطوات: أولًا، توسيع التسويات الثنائية بالعملات المحلية فى قطاعات محددة (طاقة/غذاء/بنية)؛ ثانيًا، بناء أدوات ضمان وائتمان تقلّل كلفة المُخاطرة (على شاكلة صندوق الضمان فى بريكس)؛ ثالثًا، تعميق أسواق السندات المحلية وربطها بجسور مقايضة مع البنوك المركزية الكبرى هكذا يتحول الشعار إلى سياسة عامة قابلة للقياس. إن حضور فلاديمير بوتين فى قمّة «بريكس» الاستثنائية التى دعت إليها البرازيل -عبر الفيديو- ليس تفصيلًا بروتوكوليًا؛ فالبرازيل تقود هذا العام أجندة تعزيز أدوات التمويل المشترك، وتبحث عن «صيغة توسعة» لا تُفخّخها تناقضات الهند-الصين تاريخيًا، عرف العالم لحظات «تعدد أقطاب» سرعان ما انزلقت إلى مواجهةٍ صِفرية الفارق اليوم أن التنافس يدور إلى حدٍّ بعيد فى أدوات اقتصادية/ قانونية أكثر منه فى خطوط تماس عسكرية مباشرة بين القوى العظمى، وأن «تكاليف الانفصال الكامل» باهظة على الجميع لذا فإن السيناريو المرجّح ليس «حربًا باردة جديدة» بالمعنى الكلاسيكي، بل «تنافس حارّ منخفض الشدّة» على المعايير (سلاسل القيمة، الذكاء الاصطناعي، الطاقة الخضراء، العملة الرقمية للبنوك المركزية)، تُحسم جولاته بتراكمات صغيرة لا بضربةٍ واحدة. فى هذا المشهد، مصلحة العواصم العربية والإفريقية ليست فى الاصطفاف العاطفى بل فى بناء «استراتيجية ربط»: تعظيم المكاسب من انفتاح بريكس وشنغهاى (تمويلًا وبنيةً وتسوياتٍ محلية)، مع صيانة جسور الاستثمارات والتكنولوجيا مع الغرب.. المعادلة الذكية واضحة: لا ترهن قرارك فى محورٍ واحد، وابنِ قدرةً تفاوضيةً أعلى بتوسيع قاعدة خياراتك وهذه بالضبط فلسفة «المعاملة بالمثل» على المستوى الدولي: لا عداء مجاني، ولا تبعية مجانية. لا نأسف على الإزعاج... لكننا نأسف حين يصرّ البعض على قراءة العالم بعين الأمس. الواقع الجديد لا ينتظر إقناعًا أيديولوجيًا؛ إنه يتشكّل يوميًا.. هذا هو الزمن الذى يستبدل «مركز القرار الواحد» بشبكاتٍ متداخلة من المصالح، مَن فَهِمه باكرًا سيملك هامش الحركة غدًا؛ ومن أنكره سيكتشف متأخرًا أن الخريطة تحرّكت وهو ما يزال يحدّق فى أطلسٍ قديم.