لم يكن مشهد استقبال الرئيس عبد الفتاح السيسى للشيخ محمد بن زايد آل نهيان قبل أسابيع، ثم انعقاد أعمال اللجنة العليا المصرية - القطرية فى مدينة العلمين، وقبلها الزيارة الخاطفة للمملكة العربية السعودية مجرد صور ولقاءات بروتوكولية عابرة تضاف إلى أرشيف الدبلوماسية العربية، بل كان انعكاسًا لتحرك منظم تقوده القاهرة لإعادة صياغة المشهد العربى فى لحظة فارقة من تاريخ المنطقة فنحن أمام إقليم يتعرض لمحاولات إعادة هندسة موازين القوى، حيث تسعى إسرائيل إلى فرض وقائع جديدة على الأرض عبر التوسع العسكري، والاستيطان، والتدخل المباشر فى معادلات الأمن الإقليمي، وفى المقابل تنشط قوى أخرى لتمزيق الداخل العربى عبر محاولات إعادة تدوير أفكار تجاوزه الزمن، كالدعوات المتجددة للمصالحة مع جماعة الإخوان، وهى أفكار باتت مرفوضة شعبيًا ونخبويًا لأنها ببساطة تفتح الباب لإعادة إنتاج الفوضى من جديد. فى هذا السياق، يصبح لم الشمل العربى ليس خيارًا ولا شعارًا سياسيًا للاستهلاك الإعلامي، وإنما ضرورة استراتيجية لمواجهة تحديات مركبة ومعقدة فمن جهة، هناك خطر التمدد الإسرائيلى ومحاولة السيطرة على قلب الإقليم، ليس فقط عسكريًا عبر ما يحدث فى غزة والضفة، ولكن أيضًا سياسيًا عبر محاولات تفكيك النظام العربى القائم واستبداله بترتيبات إقليمية جديدة تُقصى العرب من معادلة تقرير المصير ومن جهة أخرى، هناك ضغوط متزايدة من قوى خارجية وإقليمية لدفع العرب نحو تسويات مفخخة، أو إحياء مشاريع قديمة فشلت تاريخيًا لأنها قامت على الرهان على جماعات عابرة للحدود تعمل ضد الدولة الوطنية. لقد أثبتت الأحداث الأخيرة أن البدائل التى تُطرح من خارج الإقليم ليست سوى أدوات لإدارة الأزمات لا لحلها ففى فلسطين مثلًا، لم تؤدِّ كل المبادرات الدولية إلا إلى تجميد الموقف، بينما استمرت إسرائيل فى فرض وقائعها على الأرض وفى ليبيا أو السودان أو سوريا، لم تثمر الحلول الخارجية إلا مزيدًا من الانقسام والتدخلات ومن هنا تصبح الحاجة إلى مبادرة عربية خالصة ليست مجرد ترف، بل ضرورة لوقف نزيف التدويل الذى يحوّل قضايانا إلى أوراق مساومة بين القوى الكبرى. فى خضم هذا المشهد الملتبس، تتحرك القاهرة من منطلق أنها ليست فقط عاصمة لدولة مركزية، بل هى ركيزة بقاء النظام العربى نفسه اللقاءات الأخيرة، سواء مع قادة الإمارات أو من خلال آلية اللجنة العليا المصرية القطرية، تعكس فلسفة واضحة: لا مجال لترميم الصف العربى إلا عبر بناء مصالح مشتركة حقيقية، وتوسيع مساحات التعاون الاقتصادى والاستثماري، وربط المصالح المعيشية للشعوب العربية بخيارات وحدوية تحميها من الانقسام مصر لم تعد تكتفى بالتحذير من الخطر، بل تسعى لتطويع التباينات وتحويلها إلى فرص تعاون، وهو ما يفسر حجم الملفات التى ناقشتها اللجنة المصرية - القطرية، من الأمن الغذائى إلى الطاقة المتجددة إلى قضايا الإقليم الكبرى كفلسطينوسوريا وليبيا والسودان. لكن ما تحتاجه اللحظة العربية الراهنة ليس مجرد لقاءات أو تفاهمات ثنائية، بل رؤية مشتركة تُترجم إلى خطة عملية لصياغة حلول تنبع من داخل المنطقة وتعبر عن مصالح شعوبها فالتجارب السابقة علمتنا أن كل الحلول المستوردة من الخارج كانت فى الغالب مشروعات ناقصة، إما لأنها تجاهلت الخصوصية العربية، أو لأنها جاءت لتخدم أجندات الآخرين لا أولوياتنا لهذا، فإن أى محاولة لإعادة ترتيب البيت العربى يجب أن تنطلق من إدراك بسيط لكنه جوهري: لا أحد سيحمى مصالحنا إذا لم نحمل نحن مسؤولية صياغتها والدفاع عنها. لكن القوة الحقيقية فى هذه التحركات لا تكمن فقط فى الملفات الموقعة أو مذكرات التفاهم المعلنة، بل فى الرمزية السياسية الكامنة خلفها: أن العرب حين يلتقون على طاولة واحدة، فإنهم يبعثون برسالة واضحة بأن أمن الإقليم لا يمكن أن يُدار من خارج الإقليم، وأن محاولة فرض معادلات أمنية بمعزل عن القاهرة والرياض وأبوظبى والدوحة وعواصم القرار العربى الأخرى، هى محاولة محكومة بالفشل هذا الإدراك هو ما يحرك القاهرة اليوم لتكثيف لقاءاتها واتصالاتها، ليس كوسيط فحسب، بل كفاعل رئيسى يعيد تعريف دور الجامعة العربية، ويمنحها زخماً جديدًا فى مواجهة من يشكك فى جدواها أو يقلل من قدرتها على التأثير. ولأن أى مشروع وحدوى عربى يواجه دائمًا معركة موازية فى الداخل، فإن مصر كانت واضحة فى رفضها القاطع لأى محاولات لإعادة إدخال الإخوان إلى معادلة الشرعية السياسية فالدعوات التى طُرحت مؤخرًا حول «مصالحة» مع هذه الجماعة لم تجد فى الشارع المصرى إلا رفضًا، لأنها ببساطة تمثل عودة إلى الوراء وتجاهلاً لتجربة أثبتت أن مشروع الإخوان ليس مشروع دولة بل مشروع فوضى هذا الرفض الشعبى والنخبوى يعكس وعيًا متجذرًا بأن لم الشمل العربى لا يمكن أن يقوم على تسويات مع قوى تتعارض مع فكرة الدولة الوطنية من الأساس، بل على توافقات بين الدول الشرعية التى تتحمل مسؤولية شعوبها وتدافع عن سيادتها. اليوم، لم الشمل العربى يواجه اختبارًا عسيرًا: هل يستطيع العرب أن يصوغوا ترتيباتهم بأنفسهم فى مواجهة مشاريع التفتيت وإعادة الهندسة الخارجية؟ التحركات المصرية تعطى إجابة أولية: نعم، إذا توفرت الإرادة السياسية وتمت ترجمة الشعارات إلى مصالح اقتصادية ملموسة وأطر سياسية فاعلة لكن هذه الإجابة تظل مرهونة بالقدرة على تجاوز الحسابات الضيقة، وإدراك أن البديل عن التكتل ليس سوى الفراغ، وأن هذا الفراغ ستملؤه قوى إقليمية ودولية لا ترى فى المنطقة سوى ساحة نفوذ ومصدر ثروات. إن أخطر ما يواجه النظام العربى اليوم هو أن تُفرض عليه حلول جاهزة تُخدم فى النهاية على المشروع التوسعى الإسرائيلي، سواء بتكريس واقع الاحتلال أو بإشغال الدول العربية بصراعات جانبية تبعدها عن قضيتها المركزية لهذا، فإن بلورة رؤية عربية متماسكة لم تعد مجرد أمنية، بل صارت شرطًا لوقف عملية «الهندسة من الخارج» التى تستهدف إعادة رسم خرائط النفوذ والسيطرة فى المنطقة ومصر، حين تدعو إلى لم الشمل، فإنها لا تستحضر فقط شعارات الوحدة، بل تحذر أيضًا من أن البديل عن الرؤية المشتركة هو الوقوع فى فخ سيناريوهات صيغت فى عواصم أخرى لتخدم طرفًا واحدًا: إسرائيل. لا نأسف للإزعاج... لكننا نأسف إذا استمر العرب فى الانشغال بخلافاتهم بينما تُعاد صياغة الإقليم من حولهم مصر ترسل اليوم رسالة صريحة: الجامعة العربية قادرة على أن تكون بيتًا جامعًا إذا أعيد تفعيلها بإرادة سياسية حقيقية، والتحركات الرئاسية المصرية ليست مجرد حراك دبلوماسي، بل محاولة لرسم خط دفاع جديد فى وجه مشاريع التقسيم والهيمنة وفى لحظة يتقاطع فيها خطر التوسع الإسرائيلى مع خطر التفكك الداخلي، يصبح لم الشمل العربى ليس حلمًا رومانسياً ولا شعارًا تاريخيًا، بل يمسى شرطًا وجوديًا لبقاء المنطقة نفسها.