بيان النيابة العامة الأخير لم يكن مجرد إشادة بتعاون المواطنين أو بروتوكول إدارى روتيني، بل كان انعكاسًا لتحول جوهرى فى العلاقة بين الفرد والدولة فى معركة محاربة الجريمة، فالمبادرة التى أطلقتها النيابة لتلقى البلاغات بشأن الوقائع المصورة، لم تأتِ من فراغ، وإنما جاءت من إدراك عميق أن الأدوات التقليدية وحدها لم تعد كافية، وأن الهاتف الذكى الذى يحمله المواطن فى جيبه يمكن أن يكون فى لحظة معينة أقوى وأسرع من أى بلاغ تقليدي، إن المواطن الذى يمد يده ليلتقط مقطعًا يوثق واقعة جنائية لم يعد مجرد شاهد صامت أو مراقب عابر، بل أصبح جزءًا من بنية العدالة نفسها، حلقة فاعلة فى سلسلة تبدأ من الملاحظة وتنتهى أمام منصة القضاء. هذا التحول لا يخلو من إشكاليات، والنيابة كانت واضحة فى صياغة المبدأ الحاكم: التوثيق للإبلاغ لا للنشر، الفارق بين الاثنين هو الفارق بين العدالة والفوضى؛ فالصورة حين تُرسل إلى النيابة تتحول إلى دليل، وحين تُلقى على صفحات التواصل تتحول إلى ضجيج قد يظن البعض أن نشر المقاطع يضاعف الوعى أو يضغط على السلطات للتحرك، لكن التجارب المتكررة تثبت أن هذا النشر يفتح أبوابًا للفوضى ويمنح الجريمة دعاية مجانية ويعرض الضحايا لانتهاك جديد ربما يكون أكثر قسوة من الجريمة نفسها ومن هنا جاء الحسم: المواطن ليس ممنوعًا من التوثيق بل مدعو إليه، لكنه مطالب بأن يضع العدالة لا المنصة الرقمية كوجهة أولى وأخيرة. ولعل أبرز ما يميز هذه التجربة هو سرعة الاستجابة التى جسدتها وزارة الداخلية بتحركها الفورى عقب تلقى البلاغات، فما قيمة أن يرسل المواطن مقطعًا إذا لم يلمس أثره على الأرض؟ هنا تكمن قوة التجربة: أن يرى المواطن أن ما نقله قد تحول إلى إجراء، وأن ما وثّقه قد أسفر عن ضبط متهم أو أغلق بابا لتهديد أمنى، هذه الاستجابة لا تبنى قضية وحسب، بل تبنى ثقة، والثقة فى النهاية هى رأس المال الحقيقى الذى يقوم عليه أى نظام عدالة ناجح. قد يتصور البعض أن مطالبة النيابة بعدم النشر تمثل قيدًا على حرية التعبير، لكن القراءة المتعمقة تكشف أن الهدف ليس كتم المعلومات بل إدارتها، القانون لا يعمل هنا ضد المجتمع، بل معه، فهو يحمى الضحايا من التشهير، ويحمى التحقيقات من العبث، ويضمن أن تتحول الأدلة إلى قوة ردع لا إلى مادة استهلاكية على منصات تتغذى على الفضائح، إنها محاولة لضبط التوازن الدقيق بين الشفافية من جهة، وحماية الكرامة الإنسانية وسير العدالة من جهة أخرى. هذه التجربة تعكس أيضًا بعدًا سياسيًا وأمنيًا لا يقل أهمية عن بعدها القانونى فحين تنظر الدولة إلى المواطن كشريك لا كعبء، وحين يدرك المواطن أن صوته مسموع وأن جهده مثمر، تتشكل جبهة داخلية صلبة وفى إقليم يعانى من اضطرابات متلاحقة، فإن إشراك المجتمع فى محاربة الجريمة ليس رفاهية بل ضرورة استراتيجية، هو تخفيف للضغط على الأجهزة الأمنية وتوزيع للمسئولية على نطاق أوسع، وهو أيضًا ترسيخ لشعور الانتماء والمسئولية المشتركة. فى النهاية، ما بين بيان النيابة وتفاعل المواطن واستجابة الداخلية يتشكل مشهد جديد يمكن وصفه بأنه عقد اجتماعى أمنى يقوم على المشاركة والتفاعل والثقة، لا نأسف للإزعاج... لكننا نأسف إذا استمر البعض فى تحويل الجريمة إلى مادة للتسلية على منصات التواصل بدلا من أن تكون دليلًا أمام قاضٍ عادل، إن القوة الحقيقية ليست فى أن يرى العالم الجريمة فى بث مباشر، بل فى أن تتحول هذه الجريمة إلى ملف مكتمل الأدلة، يُدين المجرم ويعيد للمجتمع ثقته فى أن العدالة ليست شعارًا يرفع بل ممارسة تُبنى كل يوم، وحين يصل المواطن إلى قناعة أن هاتفه يمكن أن يكون عينًا للقانون، نكون قد عبرنا خطوة جديدة نحو مجتمع يحمى نفسه بنفسه، ويصنع أمنه بإرادته، ويثبت أن الشراكة بين الدولة والفرد ليست خيارًا تكميليًا، بل ركيزة من ركائز الاستقرار.