الحيرة والقلق من أمراض العصر، وهما يرتبطان جذريًا بنمط حياة سريع ولاهث، تتكاثر فيه الضغوط اليومية المرهقة للإنسان، وتتلاحق فيه الأخبار المنقولة عبر وسائل التواصل الاجتماعى، ويسبقها دائمًا كلمة عاجل أو حصرى، وغيرها من مشهيات القراءة اللافتة والخاطفة للنظر والتركيز، لتبدأ بعدها مرحلة التحليل أو التنظير والتلاعب بالحُجج والتأويلات المركَّبة، وتتزاحم أيضًا على نفس الوسيط حاملةً الكثير من الهم والغم المصنوعين فى معامل لجان جماعات وتنظيمات، هدفها صناعة القلق وقتل الأمل. وعلى الرغم من ثبوت خطأ وزيف كثير من القصص والروايات الموجودة على وسائل التواصل، فإن الاتصالات لا تتوقَّف للتأكُّد من شائعة هنا أو تصريح مكذوب منسوب لمسئول هناك، أو مدى مصداقية قصة من التاريخ تم اختلاقها وإسقاطها على الواقع لخلق حالة جدل صادمة، هدفها التشكيك فى الثوابت، بدايةً من التاريخ، مرورًا بالسياسة والاقتصاد، وصولًا إلى الدين والمعتقد. أخطر ما يُمكن أن يُواجه البشرية هو ذلك الحصار المكثَّف من الأخبار المضللة فى كل المجالات، فالتحقق من الأخبار - مع الأسف - يحتاج خبرةً خاصة وتدريبًا وبناء خبرات عن قطاعات واسعة من الناس، فالأمر أصبح جد خطير، وكل مشكلة مهما كان حجمها تصنع منها الأخبار المضللة أزمة، ويتم توظيفها فى الحروب النفسية الهادفة لإسقاط الدول وتفجير المجتمعات. وتأتى مصر فى مقدمة الدول التى تعانى من تأثير الشائعات والأخبار المضللة والمزيفة، حيث كشف المركز الإعلامى لمجلس الوزراء عن ارتفاعٍ فى معدل انتشار الشائعات، بلغ 16.2% عام 2024، مقارنةً ب 15.7% عام 2023، و13.9% عام 2022، وهو أمر يفوق بالتأكيد إمكانيات أية حكومة على الرصد والتحقق، ومن ثم التصدِّى والتأكد من وصول الحقيقة إلى كل مَن صدَّق الشائعة، وهو ما يستلزم جهدًا حقيقيًا لمكافحة التضليل، ولا أبالغ إذا قلت إننا نحتاج إلى مشروع قومى أو مبادرة قوية يكون فيها المواطن شريكًا رئيسيًا فى سبيل مكافحة هذا الكم الهائل من الشائعات، وذلك عبر التثقيف المتواصل والممتد بكيفية التأكد من الأخبار وفرزها، وماهية مصادر التثبُّت من صِدق المعلومة، وكيف الوصول إلى الحقيقة بخطواتٍ بسيطة وفعَّالة. وترتفع الأخبار المضللة فى أوساط الشباب بصفة خاصة، والذين هجروا المصادر التقليدية فى الحصول على المعلومات مثل الصحف والفضائيات إلى ملاعب التواصل الاجتماعى، واعتمدوا عليها كليًا فى الحصول على المعلومات، بالتأكيد هناك صعوبة بالغة فى إقناع الأجيال الجديدة بترك الموبايل والابتعاد عن وسائل التواصل، لكن يُمكن تصميم منهج تعليمى مبسَّط عن كيفية التأكد من المعلومات الصحيحة، لمعرفة الحقيقة وكشف الشائعات، فهى مسألة تثقيفية بالأساس، ويُمكن أن تتحوَّل إلى مادة يتم تعلُّمها بالممارسة، حيث إن التأكد من المعلومة الدقيقة سيقود الطالب لمعرفة معلومة جديدة وصحيحة، وتدريبه على أنماط التحقُّق عبر المصادر الرسمية الموثَّقة. إنعاش عادة القراءة لدى الأجيال الجديدة يبدأ بتطوير الصحف المطبوعة، فهى وثائق غير قابلة للتلاعب، وتخضع لعمليات تدقيقٍ صارمة، وتمنح القارئ فرصةً للتأمل والتفكير بعيدًا عن التشويش اللحظى، والقراءة بطبيعتها تجذب الإنسان إلى منطقة الهدوء والتفكير وترتيب الأفكار واستيعاب المعلومات، والتطوير المقصود للصحافة هو دعمها لتنمية مواردها وقدراتها لتصبح أكثر جاذبيةً لدى ذلك الجمهور، نفس الأمر مع الصحافة المحلية القريبة للأخبار والأحداث فى تلك المناطق، والتى يُمكنها توضيح الحقائق عبر اتصالها المباشر بكل الأطراف. لا أقصد بالتأكيد إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، فوسائل التواصل الاجتماعى أصبحت الوسيط الإعلامى الأول ومصدر الأخبار الرئيسى لدى شريحة واسعة من الناس، والطلب على الأخبار والمتابعات واللايفات لا يتوقف، لكن يمكن فتح المجال أمام وسائل أخرى مرتبطة فى الأذهان بالمصداقية والتوثيق كى تكون مصدر التأكد من الخبر ونقطة الجذب نحو الهدوء وإعمال العقل، وذلك يرتبط -فى تقديرى- بالعملية التعليمية والتنشئة على تقدير الصحيفة والكتاب وكل ما هو مطبوع، باعتباره المرجع الذى يمكن الاستناد عليه فى التيقُّن. يتبقى عامل السرعة فى كشف الحقائق، فالمطبوع لن يُجارى بأى حالٍ من الأحوال سرعة نشر الشائعة على وسائل التواصل الاجتماعى، ولذلك يُصبح التدريب على التفرقة بين المعلومة الموثَّقة والشائعة أمرًا ضروريًا ومُلحًا، وقد طبَّقته السويد عبر مبادرة التعليم الرقمى والتوعية، حيث اعتمدت الحكومة على التثقيف الإعلامى بدلًا من العقوبات، فقدمت المدارس مواداً لتعليم التفكير النقدى والتمييز بين الأخبار الصحيحة والمضللة، وأطلقت هيئة الطوارئ المدنية حملة إعلامية رسمية لتثقيف المواطنين على تمييز الأخبار المزيَّفة من الصحيحة، ونجحت المبادرة بالفعل فى تعزيز مهارات التفكير النقدى بين الطلاب والمجتمع، وقلَّلت من قابلية تصديق الشائعات. إن وجود مشروع قومى تتشارك فيه المدارس والجامعات وأجهزة الإعلام على اختلاف أنواعها لمواجهة التضليل ليس رفاهية فكرية، بل هو ضرورة أمن قومى، فالحروب اليوم لم تعد حكرًا فقط على ميادين القتال؛ حيث تعلو أصوات البنادق والمدافع وأخيرًا المسيَّرات، بل هى تشتعل كل لحظة على وسائل التواصل الاجتماعى، وتحتاج إلى مواجهة حقيقية تحمى عقول ووعى الناس، فكل مواطن مُثقف ومدرَّب على التحقُّق من المعلومة هو جندى فى معركة الحقيقة، وهو أمر يتطلب شراكة مجتمعية حقيقية، تبدأ من التعليم وتنتهى عند الإعلام، مرورًا بوعى فردى يُدرك أن بناء الأوطان لا يتحقَّق إلا بعقولٍ مُحصَّنة ضد الزيف، وبعيون ترى ما وراء العناوين الخادعة على مواقع السوشيال ميديا.