قبل ثلاث سنوات أقام متحف الفنون الجميلة بالإسكندرية معرضًا بعنوان «فنانو بولندا في مصر»، تضمن لوحات لفنانين بولنديين رسموها في الإسكندرية خلال الحرب العالمية الثانية (1939-1945) التي تحل الذكرى الثمانون لنهايتها هذا العام، وهم ليسوا حالة فريدة فقد كانت مصر ملتقى فريدا للعشرات من مبدعي ومثقفى العالم الذين عاشوا بها كلاجئين أو مجندين أو متطوعين خلال الحرب، مما خلق حالة استثنائية لمجتمع متعدد الأعراق تنازعته المخاوف، وفوران الإبداع، وتفاعل بحميمية مع ثقافة مصر ونخبتها. ◄ «مانينج» تلتقط إصبع موز بميناء الإسكندرية وزوجة داريل تحصل على حليب مسروق لابنتها ◄ لورانس داريل في ضيافة سيريالية مصرية المعرض المشار إليه أقيم بالتعاون مع وزارة الثقافة البولندية التي عملت على مدى ثلاث سنوات للتأكد من أصالة اللوحات التى أبدعها عدد من فنانيهم في مصر، وكشف عن أعمال كانت مجهولة لفنانين معروفين مثل «جوزيف جاريما»، و«إدوارد ماتوشزاك»، و«جيرزي مولودنيكي»، و«كونراد جوزيف زامورسكي»، وجميعهم خدموا في «لواء بندقية الكاربات» و»الفيلق الثاني»، وأبدعوا عددا من اللوحات التى عرضت زمن الحرب ما بين القاهرةوالإسكندرية، وهو ما يعطى لمحة عن طبيعة الحياة الثقافية والفنية فى مصر في تلك الحقبة. ■ القاهرة خلال الحرب العالمية الثانية ◄ الملاذ مع تصاعد نيران الحرب في مناطق عديدة من العالم، بقيت مصر ملاذا آمنا.ورغم معارك العلمين، وبعض الغارات على المدن، فإن الوضع لم يكن يقارن بالأهوال التى شهدتها عواصم الغرب. ووفقا ل«أرتيميس كوبر» في كتابها «القاهرة فى الحرب العالمية الثانية» فقد كانت القاهرة خلال الحرب تضم إلى جانب المصريين والأجانب المقيمين 35 ألفَا من قوات الحلفاء. وكانت المحلات الكبرى كالمعتاد تعج بالبضائع الفاخرة، ومقاهى الصفوة تفوح برائحة البن المحمص، والحلوى الطازجة فى الوقت الذى كانت إنجلترا تعانى نقصا شديدا فى المواد التموينية، وباريس محتلة. ولم يكن شظف العيش فى لندن موضوعا قابلا للتداول فى مصر بسبب الرقابة الإنجليزية الصارمة على كل ما يكتب. ■ أجواء القاهرة خلال الحرب العالمية الثانية وقد تدفق على مصر أعداد كبيرة من اللاجئين بعد اجتياح قوات المحور للبلقان. وكان من بينهم عدد من العائلات الملكية، كالوصى السابق على عرش يوغسلافيا الأمير «بول» مع زوجته الأميرة «أولجا» وأبنائهما الثلاثة، والذين وصلوا عام 1941، وأقاموا فى بيت صغير بمصر الجديدة، وملك يوغسلافيا «بيتر الثاني» الذى توجه لاحقا إلى فلسطين، وتبعه ثلاثون من أعيان ونبلاء الصرب. كما وصفت الكاتبة هروب ملك اليونان إلى مصر بأنه مثل هروب المسيح على ظهر حمار. وقالت إنه كان يرتدى قبعة من سعف النخيل. وقد حضر إلى مصر رفقة مجموعة من العائلة المالكة ورئيس وزرائه، وضمن هذه الأجواء المتسارعة، واتساع نطاق الحرب وصل إلى مصر أيضا أفواج من المبدعين من كتاب مرموقين، ورسامين، وموسيقيين، وغيرهم، ممن كان لقاؤهم بمصر عاصفا، وحياتهم فيها مليئة بالتناقضات، والمحفزات الإبداعية التى ظهرت فى أعمالهم. ■ راندولف تشيرشيل خلال خدمته في مصر ◄ الرباعيات يُعد الروائى البريطاني «لورانس داريل» (1912-1990) من أبرز المبدعين الذين عاشوا في مصر زمن الحرب. وكان قد وصل إلى الإسكندرية عام 1941، بصحبة زوجته الأولى الرسامة «نانسى داريل» وابنته «بينلوبي» قادمين من اليونان. وذكرت «نانسي»أنها فى ميناء الهروب أخبرت مجموعة من الجنود الأستراليين سيئى المزاج أنها لا تجد الحليب لطفلتها،فقاموا بالسطو على أحد المتاجر أمام عينيها، وأحضروا لها صناديق من علب الحليب وسط ذهولها. أما «داريل» ففوجئ عند وصوله إلى ميناء الإسكندرية، باندفاع أحد الجنود الإنجليز تجاهه مرحبا، وتبين أنه شاعر شاب معجب بكتاباته. وظلا يتبادلان الحديث طوال الليل حول قضايا الأدب. وقد صادف وصولهم إلى القاهرة رياح الخماسين، ولم يستطيعوا التأقلم مع جو القاهرة. عمل «داريل» أولا ككاتب للافتتاحية وعمود أسبوعى فى «الإيجيبشان جازيت». ■ قاعة رقص جوسا وأوزوالدفيني مسرح بعض أحداث رباعية الإسكندرية ثم تعرف على «والتر سمارت» المستشار الشرفى للسفارة البريطانية الذى كان مستشرقا ومثقفا، وأعجب بمعرفة «داريل» باللغة والتاريخ اليونانيين. ورحبت به زوجة «سمارت» المصرية الفنانة السيريالية «آمى نمر». وكان «داريل» وزوجته ضيفين دائمين على بيتهما فى 19 شارع بن زنكى بالزمالك. كما عينه «سمارت» ملحقا صحفيا بالإسكندرية. ووقع فى عشق المدينة الكوزموبوليتانية. وأشار إلى أنها صارت زوجته الروحية، والتى ألهمته كما لم تفعل مدينة أخرى. ■ الشاعر اليوناني جورج سيفريس أسس داريل فى مصر مجلة «برسونال لاندسكيب» مع «روبن فيدن» و«وبرنارد سبنسر» الشاعرين والأستاذين بجامعة فؤاد الأول. وكانوا يقومون بتحريرها داخل مقر الاتحاد الإنجليزى المصرى فى 179 شارع فؤاد، والذى كان ملتقى المثقفين من جنسيات مختلفة. وفى مصر توطدت صداقة «داريل» مع «روث سبايسر» التي قامت بترجمة أشعار «ريلكه» من الألمانية إلى الإنجليزية، ونشرها «داريل» فى «برسونال لاندسكيب». كما يظهر أنه انخرط فى علاقات مع بعض النخب المصرية ذات الثقافة الغربية، ومنهم الرسامة المصرية «كليا بدارو» (1913-1968) والتي كانت منغمسة فى رسم أجواء الإسكندرية خلال الحرب، وعنها كتب إحدى روايات رباعيته، والتى حملت اسمها: «كليا»، كما رسمته هى فى إحدى لوحاتها. ■ كتاب القاهرة في الحرب ◄ لجوء كانت الشاعرة والمصورة والرسامة اليونانية «إيلي بابا ديميتريو» ناشطة فى مجال إيواء اللاجئين فى آسيا الصغرى، ووثقت الكثير من معاناتهم بالصور الفوتوغرافية، قبل أن تغدو هى نفسها لاجئة فى مصر مع احتلال بلادها خلال الحرب، لم يكن بحوزتها أى نقود، وحلت ضيفة على «آمى نمر» فى بيتها، ووصفتها «أرتيميس كوبر» بأنها كانت متقشفة وشديدة التدين وشيوعية فى وقت واحد.كذلك وفدت إلى مصر الروائية والشاعرة البريطانية «أوليفيا مانينج» (1908-1980) برفقة زوجها «ريجى سميث»، قادمين من رومانيا. وعاشت ما بين القاهرةوالإسكندرية، وكانت مصر مصدر إلهام لسلسلة روايتها «ثلاثية المشرق».وكان قد وصل معها على السفينة نفسها التى وصفت بالمعطوبة، والمليئة بالحشرات، الروائى «روبرت ليديل» ومثقفون آخرون. ■ لورانس دوريل وابنته بينيلوبي في الإسكندرية لجوانا هونجكين واقتسمت «مانينج» وزوجها قمرة مشتركة مع الدكتور «هارولد إدواردز» شاعر ويلز وزوجته اليونانية «إيتى». وكانت «أوليفيا» مستاءة من صندوق قبعاتها الذى احتل مساحة من الغرفة الضيقة، وراحت تخرجه إلى الممر الخارجى، وكانت «إيتي» تعيده لخوفها على مجموعتها من القبعات الباريسية الغالية، وهو ما أدى إلى قطيعة بين السيدتين. وقد بقى الجميع بلا طعام لثلاثة أيام على متن السفينة. وبمجرد وصولهم إلى ميناء الإسكندرية سألوا مجموعة من الجنود البريطانيين عن أى طعام، فذهب أحدهم خلف مجموعة من الصناديق وأحضر سوباط موز كبيراً، وبدأ بإلقاء أصابع الموز إلى أعلى بينما يتقافز الجميع للحصول على شىء منه. وقالت «مانينج» إنها حصلت على موزة صغيرة خضراء من الخارج، وشبه حمراء من الداخل، وتفوح برائحة أقرب للعسل، وإنها لم تذق شيئا مثلها فى كل حياتها. وقالت إنه عندما قدمت لهم فيما بعد وجبة من البيض واللحم والشاى دمعت عيونهم. الشاعر والدبلوماسي اليوناني «جورج سفيريس» (1900-1971)، الحائز على نوبل فى الأدب 1963، حضر على السفينة نفسها، وأقام في مصر، كجزء من حكومة بلاده فى المنفى. وعكست القصائد التي كتبها فى مصر تأثر كبيرا بمصر وتاريخها وثقافتها الحديثة. ووصفها فيما بعد بأنها كانت «ملجأ للروح» فى فترة عصيبة، كذلك لجأ الشاعر الإيطالى «قيساراني» المناهض للفاشية إلى الإسكندرية عام 1941، ونشر قصائده فى مجلات مثل الصباح الجديد ووثق معاناة اللاجئين. ■ الأعمال الكاملة للشاعر برنارد سبنسر الذي عاش في مصر زمن الحرب ◄ تفاعل الروائي «إيفيلين ووه» قضى جانبا من خدمته العسكرية فى مصر ضمن قوات الصاعقة، رفقة «راندولف تشيرشيل» نجل رئيس وزراء بريطانيا. وكانا يلعبان للتسلية بدمى السيارات الصغيرة ويتراهنان، حتى خسر «راندولف» 800 جنيه فى ليلة واحدة. وسرعان ما عين «ووه» فى المخابرات بقاعدة سيدى بشر. ومن الطرائف أنه ذهب للكنيسة فى الإسكندرية في عيد الفصح، وقام بطقس الاعتراف، ولكنه لاحظ أن القس يستطرد فى سؤاله عن موضوعات ذات أهمية عسكرية، فقبض عليه، وحقق معه. وهو ما استوحاه فى روايته «الراهب والجنتلمان» التى أورد فيها الكثير مما عاشه فى مصر، وخصوصا انتقاده لأداء جيش بلاده خلال الحرب، وما رآه بعيدا عن النبل وأخلاق الفروسية. ■ الروائية الإنجليزية أوليفيا مانينج وكان أتيلية الإسكندرية الذى تأسس عام 34 أحد مراكز التفاعل بين النخب الثقافية متعددة الجنسيات وخصوصا التشكيليون مع أقرانهم المصريين مثل محمود سعيد وكليا بدارو و«آمى نمر» ومجموعة الفن والحرية السيريالية، حيث كانت الساحة التشكيلية المصرية فى أوج تألقها. كذلك شهدت مصر حضور عدد من فنانى المسرح والموسيقى والأوبرا والباليه خلال الحرب، ولجأت إلى مصر فرق باليه وأوبرا كاملة،كفرقة باليه بولندا التى وصلت عام 1940، بقيادة «ليون ووجيكوفسكي»، وقاموا بتقديم عروض فى دار الأوبرا الخديوية، وقاعات أخرى فى القاهرةوالإسكندرية، ما أثرى الحياة الفنية.