تمر الأمم بأيام تترك علامات على جدار الزمن، وتمثّل نقطة تحول، ما يأتى بعدها ليس كما قبلها، من بين تلك الأيام 3 يوليو 2013، وستدوى عبر العصور كلمة الفريق أول -آنذاك- عبد الفتاح السيسى: «إن القوات المسلحة لم يكن فى مقدورها أن تصم آذانها أو تغض بصرها عن حركة ونداء جماهير الشعب التى استدعت دورها الوطنى»، ثم لحظة عزل التنظيم الإرهابى بقوله «تعطيل العمل بالدستور بشكل مؤقت، يؤدى رئيس المحكمة الدستورية العليا اليمين أمام الجمعية العامة للمحكمة»، ولن ينسى الشعب المصرى فرحته فى كل الشوارع والميادين باسترداد وطنه وهويته، واختفاء شبح الحرب الأهلية وتفكك الدولة والأمل فى مستقبل أفضل. الحقيقة أن عزل التنظيم لم يتوقف بالإعلان عن عزل مندوب جماعة الإخوان الإرهابية فى الرئاسة آنذاك، أو عند الصراع ذى الصبغة القانونية حول الشرعية وانعدامها، وأيضًا لم يتوقف عند تعطيل مخطط تفكيك الدولة الوطنية، بل المسألة كانت أكبر من كل ذلك، فهى معركة فى حرب وجودية بين بقاء واستمرار الدولة الوطنية وبين زوالها على يد التنظيم. مبكرًا.. ومبكرًا جدًا استشعر المصريون الخطر على هويتهم وثوابتهم، وأن هناك مَن يسعى إلى تفكيك كل شىء وصنع دولة موازية، وأن مصلحته فى الانقسام.. تخوف التنظيم من وحدة المجتمع المصرى، ومن ارتباط المصريين بمؤسسات الدولة، وبالفعل كانت حركة المصريين سريعة بالخروج الشعبى العظيم فى 30 يونيو لرفض التنظيم وحكمه وتحدى تهديد التنظيم بالعنف وإراقة الدماء، استجابت القوات المسلحة بعدما حاول الفريق أول -آنذاك- الرئيس عبد الفتاح السيسى أن يضع حلًا للنزاع بين القوى السياسية والتنظيم، واصطدم الجميع برؤية الأمور وقد وصلت إلى طريق مسدود، وأن مصر تقترب من الحرب الأهلية، وأن كرة اللهب تهبط بسرعة على المنحدر، وتهدد بحريق كبير يصعب السيطرة عليه. تحرك الجيش الوطنى لإنقاذ مصر، تلك هى الحقيقة التى حاول التنظيم التشكيك فيها، أقولها وأنا أحد شهود العيان من واقع عملى الصحفى واطلاعى على كثير من حقائق الموقف وقتها، تحرك الرئيس السيسى آنذاك واتخذ قرار عزل التنظيم، وعرّض حياته الشخصية للخطر، قرار حاسم كانت له تبعات عظيمة، أنقذ ملايين الأرواح، وحافظ على فرص الدولة الوطنية فى البقاء، وعبر بمصر من نفق الإخوان المظلم، ولا أبالغ إذا قلت إنه أخطر قرار فى تاريخ مصر الحديث. تحدى الشعب المصطف خلف قواته المسلحة ومؤسسات دولته خطط التنظيم وداعميه، وكان السبب المباشر فى هدم مخطط إقليمى مدعوم دوليًا، استعاد دولته وكرامته، وحافظ على سيادته، وأكد للعالم أن قرار مصر للمصريين فقط. تحرك الرئيس السيسى فى ذلك اليوم العظيم، أوقف تدهور الدولة المصرية، وأعاد النظام بعد عامين من الفوضى الشاملة، أنقذ مؤسسات الدولة من الأخونة، وأنقذ اقتصاد مصر من احتكار رجال أعمال التنظيم، حافظ على الثقافة والفن، أوقف الاعتداء على القضاء، وأعاد هيبة المحاكم، قاومت الدولة الإرهاب، وبنى شهداؤنا الأبرار بأرواحهم الطاهرة سدًا منيعًا أمام الإرهابيين، وبفضلهم يتمتع الشعب المصرى بحريته فى بلاده. قاوم الرئيس السيسى -ولا يزال- خطط التنظيم الإرهابى الهادفة إلى إنهاك وإرباك الدولة، فيما تحاول الجماعة التسلل للنسيج المجتمعى بأفكارها المتشددة، فتستهدف الفن والثقافة أهم ركائز الهوية، وتحرّم الغناء، وتمرر تلك الأفكار الظلامية داخل مجتمع الفنانين والمؤثرين، كجزء من مشروعها لتجفيف منابع الوعى وتفريغ المجتمع من تنوعه الحضارى. ولعل ما أشار إليه الدكتور محمد الباز فى مجلة «حرف» الثقافية الصادرة عن مؤسسة الدستور، يسلط الضوء على ثغرة خطيرة تتطلب المساءلة: كيف لمؤلف كتاب سبق أن زيّف التاريخ المصرى لحساب الإخوان أن يُكلَّف بإدارة الهيئة المصرية العامة للكتاب؟ ويطرح تساؤلات حول تغلغل خلايا نائمة تسعى لاختراق المؤسسات الثقافية تمهيدًا لتفكيك البنية الفكرية للدولة. لم يكن التنظيم الإرهابى يومًا معنيًا بمفهوم المواطنة، بل تعامل مع المصريين باعتبارهم رعايا فى دولة المرشد، لا حقوق لهم إلا ما يتم منحه لهم بقرار فوقى، خارج منطق القانون والدستور، فى عقيدتهم الدولة ليست لجميع المواطنين، بل هى حكر على «الأهل والعشيرة»، بينما يتم النظر إلى مَن هم خارج الجماعة كمجرد أتباع لا يتم السماح لهم بالاعتراض، ويُفرض عليهم الولاء القسرى، وإلا فالترهيب والعقاب مصيرهم. لا تزال ذاكرة المصريين مثقلة بمشاهد العنف المروّع على أسوار قصر الاتحادية: توقيف المارة بسبب ديانتهم، وتعذيب مواطنين لمجرد أن بطاقاتهم الشخصية كُتب فيها «مسيحى»، والاعتداء على النساء لأنهن رفضن الخضوع لحكم المرشد، وعبّرن عن غضبهن فى هتاف، كانت تلك لحظة انكشاف الدولة البديلة، التى أرادت الجماعة فرضها بالقوة، دولة بلا قانون، ولا مساواة، ولا كرامة إنسانية، وإنما بنية طائفية استعلائية لا تعترف إلا بالسمع والطاعة، وإلا فالقتل مصير كل مَن شق عصا الطاعة. أعطى التنظيم الأمان للإرهاب بقرار رئاسى، وأصدر الرئيس الإخوانى المعزول بيانًا عقب خطف الجنود المصريين فى سيناء، يعطى فيه الخاطفين الأمان، ويطالب بسلامتهم، اهتز العالم حينما سمع برئيس يدعو لسلامة الخاطفين والمخطوفين، البعض اعتبرها نكتة، ولكنها كانت الحقيقة المرّة، التنظيم وصل إلى الحكم، وخطط لإنشاء جيش موازٍ فى سيناء، متصل بكل جماعات العنف والإرهاب فى المنطقة، كان السلاح حاضرًا بجوار صناديق الاقتراع، ديمقراطية الإرهاب أوصلت التنظيم إلى الحكم فى لحظة زمنية حالكة السواد من عمر الدولة المصرية. اليوم نتذكر دروس الماضى، لأن المعركة لم تنته، ومخطط الإخوان ثابت، وداعميهم مستمرون، وأذرعهم الإعلامية لا تتوقف عن إنتاج الشائعات والنفخ فى الأزمات، واستغلالها لإثارة الخوف والقلق فى النفوس من المستقبل، لأنهم يدركون جيدًا أن الأمل هو أغلى ما تملكه الشعوب، وإذا اختفى وحلَّ محله اليأس والإحباط تصبح اللحظة مواتية لانقضاض التنظيم مرة أخرى. تمكنت الجمهورية الجديدة أن تُحدث تحولًا ملموسًا فى الواقع المعيشى للمواطن المصرى، عبر تبنى سياسة داخلية قائمة على الإنجاز فى كل المجالات، بالتوازى مع سياسة خارجية شريفة، جمعت بين الحضور الإقليمى الفاعل وتجنب التورط فى النزاعات، ففى ذروة تصاعد التوترات فى قطاع غزة، والصراعات الممتدة فى السودان وليبيا، تمسكت القاهرة بدورها كوسيط لا كطرف، وحافظت على موقف ثابت من رفض الانجرار إلى ساحات التصعيد، وهو ما عكسته تحركاتها الدبلوماسية المكثفة، من محادثات التهدئة إلى استضافة جولات الحوار، بما جنب المصريين تبعات الانفجار الإقليمى. هذا النهج لم يكن مجرد موقف سياسى، بل جزء من رؤية أوسع تعلى من قيمة الاستقرار، وتضع أمن المواطن على رأس الأولويات، ومن ثم يمكن قراءة هذا الأداء السياسى كمؤشر على نضج إستراتيجى يوازن بين الحضور والسيادة، ويُعيد تعريف الدور المصرى فى محيطه المضطرب دون التفريط فى ثوابته الوطنية.