إذا كانت السيدة أو الفتاة المصرية قد عرفت طريقها إلى الوظائف الحكومية منذ زمن طويل، فإنها أيضاً اقتحمت مجال الصنايعية وأصبحت سباكة ونجارة وسائقة تاكسى وميكانيكية بل وجزارة أيضاً ! لا تخلو مهنة صعبة من امرأة تعمل فيها وتنجح من خلالها وتضرب المثل على قوة احتمال وصبر البنت المصرية على العمل فى أصعب الظروف.. فيما يلى نماذج لسيدات وفتيات رفضن الجلوس فى المنزل ووضع اليد على الخد والشكوى الدائمة، وخرجن إلى الشارع ليكسبن قوت يومهن من عرق جبينهن، ويثبتن أن البنت المصرية ب 100 راجل وقادرة على صناعة الأمل وتخطى الحواجز ومواجهة الحياة بكل عزيمة وإصرار وقوة. ابتسامة فى محطة بنزين فى إحدى محطات البنزين تستقبل أبرار محمد (إحدى العاملات) زبائنها بابتسامة مُرحبة، وتتحدث عن عشقها لكل ما هو مختلف وجديد ولم يتطرق له أحد من قبل. وتقول: فوجئت بترحابٍ من العاملين بالمكان؛ الزملاء، والمدير وأشعر بالفخر بما أقوم به كلما رأيت نظرة فرح فى عيون أحد رواد المحطة وهم يشجعوننى على الاستمرار فى العمل. تخرجت أبرار فى كلية الآداب قسم إعلام، وتقول: علمت بالأمر عن طريق صديقة، ونحن نؤدى دورنا فى المجتمع.. تتذكر أن والدها اعترض فى البداية بحجة أن هذه المهنة للرجال فقط، ولكن بعد رؤيته للمكان وتعرفه على زميلاتها اقتنع وشجعها. أسعار «حنيّنة» بعد أن كانت أم باسم-74 سنة- صاحبة أملاك ولديها أموال، استيقظت ذات يوم لتجد نفسها وأبناءها فى مواجهة الحياة بدون أى شيء، فقد هجرها زوجها وأخذ معه كل ما تملك ولم تعد تعلم عنه شيئاً، وبعد عامين من المعاناة قررت تعلم مهنة تضمن لها دخلا يوميا، ولاحظت أن أى عامل يأتى للمنزل سواء كهربائياً أو سباكاً أو نجاراً يحصل على مبلغ، فطلبت من الله أن يمن عليها بصنعه.. حصلت على دورة تدريبية فى السباكة بعد رفض شديد بحجة أنها امرأة ، لكنها أخبرتهم أنها عملت بورشة طلاء معادن ومكوجى وطباخة ، فكل العوائق لا تمثل لها شيئاً ، وبالفعل بدأت العمل فى السوق.. اشترت أم باسم عدة سباكة ووضعتها داخل حقيبتها الخاصة وبدأت فى التطبيق العملى بين جيرانها وأصدقائها، فدخلت كل بيت من البيوت المجاورة تعرض المساعدة. وتحكي: كنت أحضر كل احتياجاتى من شخص واحد هو الذى لاحظنى وسألنى هل أستخدم كل هذا لمنزلى فقط؟ وفوجئ عندما أخبرته بأننى سباكة، وفرح لدرجة أنه عرض عليّ العمل معه بعد إنهاء دوراتى التدريبية، وما زلت أعمل معه حتى الآن، وأهم ما شهرنى بين الناس هو «حنية» أسعاري، وأنا سعيدة بهذا العمل لأقصى درجة. بنت الحاج لطفي خلف مكتب صغير داخل محل للكاوتش، تجلس مروة لطفى بجسدها النحيل، وملابسها المُحتشمة، تستقبل زبائنها بابتسامة.. بهدوء ورثته عن والدها تستمع إلى طلباتهم، وتقف على رءوس العمال تراقبهم وهم يؤدون مهامهم. سنوات وهى تدير مشروع والدها، لم تتوقف يوماً عن ملاحظة الاستغراب على وجوه المارة وهم يشاهدون شابة صغيرة تدير محلاً للكاوتش، تقول: البعض يزعم أنه جاء للشراء وهدفه الفرجة عليّ، وتعترف: أغيّر من صوتى لتبدو نبرته «ناشفة» بدون دلع، وملابسى لأصبح أكبر من عمري.. خارج المحل أعيش سنى الحقيقية.. تحكى عن والدتها التى تتناوب معها العمل وأمنيتها فى تكبير تجارتها.. أسألها ماذا يشبه الكاوتش فتجيب: مثل عمر الإنسان.. بس «العجلة» حظها حلو وليها استبن. إلى نقطة بعيدة تنظر قبل أن تواصل: كنت طفلة صغيرة يصطحبنى والدى إلى هنا لألهو.. يحلو لى الفرجة عليه وهو يفك ويركب الإطار بمهارة ويتحدث مع أصحاب السيارات بألفة. وتضيف: بشهادة الكل لسان الحاج لطفى (تقصد والدها) بينقط شهد، ابن بلد، وأصيل، ومبيحبش اللى بيكشر.. تبرق الدموع فى عينيها وتواصل: مات أبى وبقيت ضحكته فى المكان. وتواصل: لم ينجب الولد.. فكنت له العون والسند.. فى عامى الثانى بكلية الآثار فوجئت به يطلب منى النزول إلى المحل.. لن أنسى نظرته الآمرة قائلاً : ركزى فى كل حاجة داخلة وخارجة. تستطرد وتقول : شربت المهنة فى شهور قليلة، تركيب «العجلة» وفكها، ومعرفة أنواع الكاوتش، ومقاساته، وضغط الهواء ودرجة حرارته، والتفريق بين الماركات.. وتضحك قائلة : أبى من أطلق على «الميشلان» لقب أم كلثوم فاشتهر به. وتصف مروة والدها ب «ملك الكاوتش».. وتظن أنه كان يمتلك عدة ألسنة؛ يخاطب بهم كل زبون حسب تعليمه ومهنته.. لم تنسِ رفض العمال لها فى البداية.. والدى كان حازماً وقال لهم: هذه أنا وتتفاخر قائلة: نجحت بعد وفاته فى المحافظة على الزبائن وكسب ثقة الجميع. إمبراطورة الجزارين يطلق على الست هويدا «إمبراطورة الجزارين»، لم تدخل المهنة بسهولة، فقد تعرضت لحرب طاحنة من الجزارين الرجال المنافسين وصلت لاختراق هاتفها ونشر صور خاصة لها، وتعمل فى هذه المهنة الصعبة منذ 55 عاماً، وتقول: الجميع يدركون تماماً أننى بمليون راجل وسمعتى مثل الذهب، ولولا نجاحى لما حاربونى فى شغلي.. لديها أربعة أبناء و12 حفيداً، ورثِت المهنة عن والدها، وزوجها الذى كان يعمل معها فى نفس المجال، ويعمل معها حالياً ابناها وأخواها، وتقول: أبنائى يتشرفون بى فى كل مكان، وكلهم «متسيطين على حسي». وسط الموتوسيكلات حبيبة الشيمي-21 سنة- ميكانيكى موتوسيكلات بدأت العمل فى هذا المجال منذ 3 سنوات، بعد دراستها ميكانيكيا سيارات، لكن خبرة والدها فى الموتوسيكلات شجعتها على الانضمام لهذا المجال فمنها لمعاونة والدها ومساعدة سكان منطقتها بالعمرانية الذين يأتون لها تحديداً لإصلاح الموتوسيكلات الخاصة بهم.. وتقول حبيبة: إنها لا تتعرض لمضايقاتٍ ، فعائلتها تعيش فى هذه المنطقة منذ أكثر من 60 عاماً .. وكل المنطقة تحترمها وتقدرها.. والورشة خاصة بها وبوالدها وفكرت فى أن تقتحم هذه المهنة الصعبة الخاصة بالرجال فى المقام الأول بعد أن جربت العمل فى الكثير من المجالات، ولم تجد راحتها أو شغفها سوى وسط الموتوسيكلات فقررت أن تخلص لها وتكرّس وقتها كله لها. جدعنة وشهامة تتذكر د. سهير الدمنهورى أستاذ علم الأنثروبولوجيا ورئيس قسم الاجتماع الأسبق بكلية الآداب جامعة حلوان ثمانينيات القرن الماضى بعد دخولنا عصر الرأسمالية وفتح كل المهن للذكور والإناث.. بدأت السيدات مع اختلاف ظروفهن المادية والاجتماعية سواء كن مطلقاتٍ أو أرامل أو فتياتٍ صغاراً .. ولا يملكن دخلاً ثابتاً لينفقن منه ويقمن بدور الجدعنة والشهامة ولهن بصمة ودور مهم جداً لسد احتياجات أسرهن دون الاعتماد على أحد، فهن سيدات وفتيات ب 100 راجل، وهذه النماذج لا تتواجد سوى فى المناطق الشعبية الأصيلة القديمة والقرى فى المحافظات. ومن الحالات التى نلاحظها كثيراً خروج فتياتٍ صغار لسوق العمل وغالباً ما يكون نتيجة لإنجاب الأب والأم أطفالاً كثيرين، مما يضطر الأب للاعتماد عليهن فى توفير بعض النفقات .. وغالباً ما تكون الابنة الكبرى أو الصغرى. وتوضح: أن الظروف الاجتماعية والمادية هى ما يحتم على المرأة الدخول فى مهن لم تكن مُخصصة لها من قبل، وتتعلمها إما عن طريق الأب الذى لم يرزقه الله بولد يحمل اسمه ويتولى مهام عمله من بعده أو عن طريق الزوج والأب أيضاً الذى كان يعمل فى المهنة وإما توفى أو أصابه مرض جعله عاجزاً عن ممارسة العمل مرة أخرى، فاضطرت المرأة أو الفتاة إلى دخول المجال غصباً عنها .. وهذا هو الطبيعى فى الحياة أن المرأة تُعين زوجها وأبيها وعائلتها. وترى أن ما يحدث مع المرأة هو جانب من نهضة المجتمع وليس العكس، وقضية المهن الشاقة فى غاية الأهمية ولا يمكن أن نصنفها كنوع من القهر للمرأة، ولكنه نوع من الاستقلال وتحقيق الذات والطموح خاصة وأن تلك المهن تدر دخلاً على صاحبتها أفضل من الوظائف الحكومية العادية، وبالطبع لا يمكننا أن نغفل تعبها ومعاناتها .. ولكن تلك هى سنة الحياة ، فمن بعد المعاناة نحصل على ما نريد فهى معادلة، وهذه طبيعة المرأة المصرية ، فعندما تجد أن ظروفها أصبحت سيئة وهى قادرة على دخول أى مجال وتتعلمه وتتقنه وهو شيء فى غاية الجمال ومكمل للصورة الطبيعية لتحقيق ذات المرأة .. وفى نفس الوقت استقلاليتها وشعورها بعدم الدونية التى عاشتها قديماً فى العديد من الحقب الزمنية، وأصبحت الفتاة المصرية تعى تماماً ما لها وما عليها. تحول نفسى فى حياة بناتنا ومن جانبه لا ينسى د. على النبوى أستاذ الطب النفسى بجامعة الأزهر أحد أصدقائه وكان يعمل فى تقفيل إحدى شرف منزله بالألوميتال لاستغلال مساحتها الكبيرة، ومع البحث على الإنترنت عن صنايعى ألوميتال أو شركة مختصة فى هذا المجال فوجئ بأن من يرد عليه سيدة تمتلك مؤسسة للألوميتال، وتعجب من كيفية عمل سيدة فى هذا المجال؟ فكان رد د. على بأنه شاهد فيديو على السوشيال ميديا عن سيدة تعمل ميكانيكى سيارات، وانفتاح التواصل الاجتماعى قادر على تغيير العقل والتفكير، فعندما يوافق الأب المصرى على أن تقوم ابنته بالظهور فى فيديوهاتٍ للتسويق عن محلات قطع الغيار للسيارات وتحقق مشاهداتٍ كثيرة وتصبح مشهورة فالمتوقع التالى أن تقلدها البنات فيما بعد.. ويشرح قائلاً : «التحول النفسى فى حياة بناتنا أصبح ملحوظاً حتى فى المهن التى كان من الصعب أن تتقدم لها فتاة أو سيدة، وإذا كان الفن يعبر عن الواقع فإن هناك مشهداً فى ثلاثية نجيب محفوظ يعبر عن الواقع وقتذاك عندما جاء ابن السيد أحمد عبد الجواد يقول له: إن زميله يريد أن يخطب أخته فرد عليه قائلاً: (وهو عرف منين إن عندك أخت يا كمال؟) وظل ينتقده انتقاداً لاذعاً أن زميله يعرف أن له أختاً.. ولنا أن نتخيل أن هذا الزمن كانت لا تخرج البنت من بيتها وإذا خرجت ترتدى على وجهها (يشمك) يخفى ملامحها، أما اليوم، فالبنت المصرية لها الحق فى إبداء الرأى وأخذ القرار الذى قد يكون مخالفاً للأسرة، بل خرجت للعمل فى شتى المجالات وهذا ليس سهلاً عليها، لأن الأعمال المنزلية مرتبطة بشخصية المرأة فهى تعمل ثم ترعى شئون بيتها وهو ما أظهر أن للمرأة قوة مضاعفة، فهي تتحمل أشياء كثيرة فى نفس الوقت لا يستطيع الرجل تحملها، مما يجعلها قدوة لجيلها وبناتها من بعدها.. ويستكمل قائلاً: «لذلك ليس غريباً أن نجد الآن فتاة تعمل فى محطة بنزين أو تقود موتوسيكل «أوبر سكوتر»، أو ميكروباص أو تاكسى أو أرملة أو مطلقة تقوم بتوصيل التلاميذ للمدارس كى تنفق على أولادها، وهذا التغير المجتمعى يحدث نتيجة ضغط الأشخاص والإصرار على الفكرة».