أواخر القرن 15 وضمن تزيين مقر إقامة البابا «ألكسندر السادس» بجداريات دينية تصور القديسين والرموز المسيحية، رسم الفنان «بينتوريتشيو» بينها مجموعة من اللوحات الغريبة تماما عن المشهد، والتي تصور أسطورة إيزيس وأوزوريس الفرعونية وعجل أبيس المصري، وهى ما اعتبرت طوال أكثر من ألف عام عنوانًا للوثنية، ولم يكن هذا حدثا فريدا في عصر النهضة، فقد كان الهوس بمصر القديمة قد بلغ ذروته ليس فقط بين الفنانين والمثقفين، ولكن حتى داخل الكنيسة. ◄ إيزيس وعجل أبيس في مخدع البابا ألكسندر السادس ◄ «كوزيمو دي ميدتشي» أجل ترجمة أفلاطون لأجل الحكمة المصرية ◄ قدوم اليونانيين إلى مصر أشعل شرارة حضارتهم ◄ مسلات مصرية وأهرامات مقلدة في روما ◄ «هيروغليفية» في «مانتوفا» وهرمان في أيقونة صلب القديس بطرس الهوس بمصر هو تجل فريد للافتتان بالحضارات، تخطى حدود الاهتمام الأكاديمي والثقافي إلى ولع شعبى عابر للثقافات والعصور، بكل ما هو مصرى من فنون وثقافة وآثار وحتى بمفردات الحياة اليومية من أزياء وحلي. وقد عبر عنه مصطلح «Egyptomania» الذي يعنى حرفيا الولع الجنونى الذى يصل إلى حد العشق المرضي. هذا الهوس الذى بدأ مبكرًا، لم يكن على الدوام إيجابيًا، فقد ظهر عبر حالة معقدة من الانبهار والمحاكاة والاستيلاء على الموضوعات والطابع والسرديات الأدبية وحتى استباحة الآثار. ولع قديم ■ مسلة فلامينيو في أيطاليا التي ترجع إلى سيتي الأول ظهر الولع بمصر في العصور القديمة منذ تدفق اليونانيون إلى مصر فى القرن 7 ق.م، بعدما سمح لهم «إبساماتيك الأول» بدخول مصر والإقامة بها فى تجمعات خاصة بهم. وهو ما أدى وفقا ل«هيرودوت» إلى إشعال شرارة الحضارة اليونانية. وقاموا باستلهام الحضارة المصرية، ليس فقط فى العمارة والفنون، ولكن أبحاثا حديثة تشير إلى أنه حتى الفلسفة اليونانية، يرجح أن تكون جذورها قد استقت ماءها الأول من معابد مصر الفرعونية. كذلك انبهر الرومان بمصر ونظروا لها كأرض للحكمة الغامضة. وهو ما يتضح من كتابات «ديودور الصقلي» فى القرن الأول قبل الميلاد. ■ كتاب الهوس بمصر لرونالد فريتز وبغض النظر عن مدى دقتها، لكنها عكست الهوس بمصر، والذى أدى لاحقًا إلى احتلالها، بعد هزيمة كليوباترا، وغزو «أوكتافيوس» لها عام 31 ق.م. وتزايد الهوس بعد الاحتلال إلى حد قيام «كايوس سيستيوس» الشخصية المرموقة فى روما ببناء قبره على شكل هرم بين عامى 12 و18 ق.م، ولا يزال قائما، بارتفاع يزيد عن 36 مترا. كما زار الإمبراطور «هادريان» مصر عام 130م وكرم صديقه المتوفى «أنتينيوس» كإله مصرى «أوزوريس». واعتبر جولته عبر النيل أجمل رحلات حياته. وزين قصره فى «تيفولي» بمنحوتات فرعونية، ووضع زوجًا من الأسود المصرية الجرانيتية فى البانثيون. ■ عبادة عجل أبيس المصري بريشة أحد أتباع فنان عصر النهضة فلبينو ليبي كما ظهر افتتان الرومان بالمسلات المصرية، ونقلوا العديد منها إلى روما لتزيينها فى عملية استيلاء ثقافى واضحة. كذلك ظهرت صور وتماثيل مصرية، ك«أبو الهول» والتماسيح، فى الفسيفساء الرومانية، مثل فسيفساء النيل فى «باليسترينا»، وانتشرت موضة الزخارف المصرية فى روما، ووضع «أغسطس» صورة «أبو الهول» على العملة الرومانية. وكان هذا انعكاسا لاعتقاد بأن مصر تمتلك حكمة سرية ولاهوتا جذريا. وهو ما تأكد لهم بعد إعادة اكتشاف كتابات هرمس، النسخة اليونانية من حكمة تحوت المصرى الموغلة فى القدم. كما مزجت الأعمال الفنية فى تلك الفترة بين الموضوعات المصرية والتقاليد الرومانية، ما أدى إلى ظهور أسلوب «مصري» خاص بالرومان. ■ زوج من أبو الهول المصري في بيدولف ◄ إلهام تجدد الاهتمام بمصر في عصر النهضة الإيطالي، مركزا على محاولات الفهم العميق لجوهر الحضارة، من خلال النصوص والآثار. ووفقا لدراسة «برايان كوران» بعنوان «مصر القديمة والآثار المصرية فى عصر النهضة الإيطالي» 1997 فقد كانت روما حافلة بالآثار المصرية القديمة، من مسلات، وأهرامات مقلدة، وتماثيل «أبو الهول»، وتماسيح وجعارين، وغيرها مما مصدر إلهام للفنانين والمفكرين. وتغلغلت الرموز المصرية في قلب المسيحية الغربية. كذلك ضم «قصر تي» في «مانتوفا» نقوشا هيروغليفية ورسوما مصرية. واهتمت الجمعيات المسيحية بجمع الآثار المصرية. وكان هناك اعتقاد بأن القديس «بطرس» صلب على مرأى من المسلة المصرية لكنيسة الفاتيكان التى كانت من قبل فى سيرك روما. وهو ما جعلها موضع تبجيل لارتباطها بالبابا الأول. ■ تمثال إيزيس فورتونا الروماني يعكس هوس الرومان بمصر وآلهتها ◄ اقرأ أيضًا | «أحباب النيل».. مشاهد رومانسية في لوحات فنية ويظهر القديس فى لوحة «بينادينو بوتوريتشيو» مصلوبا رأسا على عقب بين هرمين مدببين. ويبدو أن روما ضمت آثارا مصرية أكثر مما كان يعتقد، فقد ورد أن البابا «ليون العاشر» أمر بنقل آثار مصرية يعود تاريخها للأسرة 29 إلى مكان أكثر بروزا فى قصر «سيناتوريو» على تلة «الكابيتولين». كما بنيت هياكل جديدة على الطراز المصري، ومنها مقابر الأهرامات لعائلة «تشيجي». ووصل الهوس إلى محاولة علماء عصر النهضة مثل «بييريو فاليريانو» ترجمة الهيروغليفية استنادا لكتابات «هورابولو». وكان خطؤهم أنهم تعاملوا معها كرموز. كذلك تأثر فنانو عصر النهضة، مثل «رافائيل» و»جوليو رومانو»، بالآثار المصرية. وهو ما بلغ ذروته فى «الصفحة المصرية» من كتاب الصلوات الخاص بالكاردينال «كولونا»، والذى ضم مجموعة من الصور المصرية. كما ترك «ليوناردو دافينشي» بعضا من الكتابات بالصور استلهاما من الهيروغليفية. ولم يقتصر الاهتمام بمصر على الفن والعمارة، بل امتد إلى الفكر والفلسفة، وبالأخص الحكمة الهرمسية. وتم ترجمة إحدى نسخها اليونانية، بأمر من «كوزيمو دى ميدتشي» حاكم فلورنسا ل»مرسيليو فيسينيو» الذى طلب منه التوقف عن ترجمة أفلاطون حتى يفرغ من ترجمتها إلى اللاتينية والعامية الإيطالية، وطبعت عام 1471. وفى مقدمة الكتاب زعم المترجم أن الحكمة المصرية تنبأت بالوحى المسيحى مما ساعد على تقبلها ضمن إطار مسيحي. وفى كتابه «فن البناء» كتب «ليون باتيستا ألبيرتي» من عصر النهضة أن المصريين كتبوا بالصور التى تدوم معانيها، وهو ما يجعل الهيروغليفية لغة عالمية. وبصرف النظر عن خطأ معتقدهم، فقد أدت هذه النظرة إلى هوس بالكتابة الهيروغليفية. وقد أشار عالم المصريات «جان ويناند» إلى وجود نوعين من الهيروغليفية فى عصر النهضة الأوروبى الأول هو الرموز المصرية الحقيقية والتى تم التعامل معها بشكل افتراضى كترجمة لمعان متخيلة، والثانى هو رسوم تصويرية مستوحاة من الهيروغليفية ولا تمت لها بصلة. وقد حفز ذلك الهوس بعض الرحالة والباحثين على السفر مبكرًا إلى مصر ومنهم «كرياكوس من أنكوتا»، و»نيكولا نيكولي» و»جانوس لاسكريس» و»بوجيو براشيوليني» وآخرون، والذين لم تسهم أسفارهم فى دراسة علمية لمصر وتاريخها بقدر ما عززت الأساطير حولها. ■ الهوس بمصر صورة من خيال الفنانين قبل الحملة الفرنسية ◄ الباروك المصري في عصر الباروك كان العالم الذى اشتعلت فيه شرارة النهضة، يسرع الخُطى نحو تغييرات جذرية قادمة. وكانت الثقافة المصرية القديمة أحد العناصر الحاضرة، بل والمحركة أحيانًا لهذا الحراك الفكرى والثقافي. في روما القرن 17 ازدهر نوع من الفن والأدب المستوحى من مصر القديمة، وكان ذلك متعارضًا مع الكنيسة، ومع ذلك حظى برعايتها فى بعض الأحيان. وكانت مصر حاضرة أيضا فى الكتاب المقدس من خلال قصص النبيين يوسف وموسى ورحلة العائلة المقدسة. وفى تلك الفترة زعم «إثناسيوس كيرشر» أحد أهم مثقفى ذلك العصر أنه تمكن من فك رموز الكتابة الهيروغليفية. وبصرف النظر عن أخطائه الفادحة، فقد كان محط أنظار المثقفين والكتاب، ونشر بينهم الهوس بمصر. وكان قد بدأ اهتمامه بها منذ طفولته. وبطريقة ما كان لديه مجموعة من الآثار المصرية التى آلت لاحقا لمتحف «تورينو». وكانت مصر حاضرة فى كل كتبه وأبحاثه، حتى أنه فى كتابه عن الصين زعم أن المصريين استقروا فى شرق آسيا بعد الطوفان العظيم مستندا إلى نظام الطبقات والمعابد والكتابة الرمزية، وزعم أن «كونفوشيوس» هو هيرمس، وأنهم يعبدون إيزيس باسم «بوسا». وتجلى ولعه بمصر فى مسرحيته «أوديب المصري». لكن ينظر له اليوم كمدع نجح أسلوبه المنمق فى إقناع مثقفى عصره بأنه وصل إلى مفتاح فهم الهيروغليفية. في كتابه «الهوس بالمصريات: تاريخ من الانبهار والهوس والخيال» الصادر فى لندن 2016، يتناول الكاتب «رونالد فريتز» سحر مصر القديمة مركزًا على المصادر الأدبية وليس على الثقافة البصرية والمادية. ويقول إن الهوس ظاهرة اجتماعية، تقوم فى كثير من الأحيان على الخيال، بخلاف علم المصريات الذى يتبع منهجًا علميًا. وتناول الكتاب فى فصله الأول مصر الحقيقية من منظور التاريخ والجغرافيا والبيئة، وأعقبه بفصل عن مصر فى العهد القديم، وتتبع مسار الهوس عبر التاريخ. ويأتى الفصل الرابع حول العصور الوسطى، وما ساد من خرافات حول مصر، حتى أنه كان من السائد أن الأهرامات هى خزائن غلال النبى يوسف. ورغم كل علامات الهوس والانبهار بمصر حتى عصر الباروك، إلا أن الجنون الحقيقى هو ما سيحدث بعد ذلك، خلال حقبة الاستشراق، وما تلاها من أحداث كالحملة الفرنسية، واكتشافات أثرية سكبت مزيدًا من الزيت على نيران الولع الذى لا يتوقف بمصر.