قبل أيام كان الإقليم الذى نعيش فيه مشتعلا، مشروعات إقليمية تتبادل اللكمات بالصواريخ والمسيرات، بينما باقى سكان المنطقة يتابعون ما يجرى بكثير من الترقب والقلق، الخطر النووى يحلق فوق الجميع، والخوف من تمدد الصراع وعواقبه لا يستثنى أحدا، بينما الطائرات تحلق حاملة الخائفين إلى ملاذات الأمان، وعلى رأسها مصر. فى الأحداث الأخيرة، كانت مصر هى عاصمة الأمان صاحبة الصوت الواثق الحكيم، كانت هى الدولة التى وفرت لمواطنيها الكثير من الطمأنينة، بفضل سياستها الرشيدة والهادئة والعاقلة فى محيط تصارعت فيه وبشراسة دول وقوى عظمى تضغط على بعضها بالقوة العسكرية، إيران ترد العدوان عليها بإطلاق الصواريخ فى محيطها، بعضها كان مؤلما لإسرائيل والآخر كان معلوما مكان سقوطه، وذلك عند ردها على الضربات الأمريكية ضد منشآتها النووية. فى تصورى أن مصر أدركت مبكرا شكل الصراع القادم فى الشرق الأوسط، وقرأت خريطة الصراع وتطوراته عقب نجاح ثورة 30 يونيو 2013، واستعدت بتحديث قواتها المسلحة بأحدث المعدات، ونوعت من مصادر تسليحها، وهو عمل استباقى فى توقيته، ولا أبالغ إذا قلت إن كثيرًا من الانتقادات التى تم توجيهها إلى صفقات الجيش المصرى من شخصيات محسوبة على المعارضة لم تكن بدافع الحرص أو الرقابة، بل كانت تهدف صراحةً إلى عرقلة مسار التطوير والإبقاء على مصر دولة هشّة يسهل التدخل فى شؤونها، والنيل من سيادتها، والتلاعب بأراضيها ومصير شعبها. فى كتابه المهم «النظام العالمى» تحدث هنرى كسينجر مستشار الأمن القومى الأمريكى الأسبق وأحد أبرز منظرى السياسية الدولية عن مصطلح الوعى بالتوازن «Consciousness of Balance». والمقصود به هو أن السلام العالمى لا يتحقق فقط من خلال توقيع اتفاقات أو إسقاط الأنظمة، بل من خلال وعى عميق لدى القوى الفاعلة بأن تجاوز حدود معينة سيؤدى إلى ردع مؤلم وستكون الكلفة كبيرة، وهذه هى نقطة التوازن، بمعنى آخر أن ما يحفظ السلام والاستقرار هو التوازن الفعال. وقد حققت مصر ذلك التوازن، سواء عبر تحديث قدراتها العسكرية وتحقيق الانتصار فى حربها ضد الإرهاب، ثم التوزان فى علاقاتها الخارجية، وبذلك امتلكت القوة المطلوبة لحماية نفسها فى النظام العالمى الجديد الذى تنبأ به كسينجر قبل سنوات. إن قراءة الواقع الإقليمى بشكل جيد تُمكّننا من فهم أحداث قد تبدو غير مترابطة وقعت عام 2011، حينما استبدت الفوضى بمصر عقب أحداث يناير، استند الشعب المصرى على مؤسسات دولته، فعبر من الفوضى بأقل الخسائر، فى حين تابعنا كيف تم تدمير دول مجاورة، وكانت نقطة البداية تحطيم قواتها المسلحة، وتراخى أنظمتها فى التعامل مع المليشيات الإرهابية، التى حلت محل القوات المسلحة فى دول عديدة مرت بنفس التجربة المؤلمة لغياب الدولة، ذلك التراخى هو نفسه الذى تقبل حكم أنظمة إرهابية ودعمها رغم أنها مثلت خطرا على الهوية، وأشعلت الفتنة الطائفية. أستطيع القول: إن أحداث يناير كانت قفزة فى الفراغ بحسب تعبير أستاذ الأجيال محمد حسنين هيكل، قفزة أضعفت الجميع، وسمحت بظهور مشروعات إقليمية تقوم بهندسة أخرى للمنطقة لتحقق مصالح قوى بعينها، اتفقت على إنهاء حلم الدولة الفلسطينية وضياع الأراضى من أصحابها، وقررت أن تنقض على مصالح أية دولة ضعيفة لتنهشها دون رادع ، وأن تتدخل فى شئونها وتجبرها على اتخاذ قرارات تخدم مصالحها. انتفض الشعب المصرى رافضاً حكم الإرهاب، وقطع الطريق على كل من تجرأ على التلاعب بدولته ووحدة شعبه، وتصدى جيشه الوطنى -بكل بسالة- لكل يد امتدت للنيل من أمنه وسلامته، لم يكن الجيش مجرد مؤسسة نظامية، بل كان بحق درع الوطن وسيفه، وحين استنجد به الشعب لم يتردد لحظة، وتصدّى بقوة وبسالة لمن هدد أمن الدولة المصرية، والتف الشعب حول بطل حقيقى من أبنائه، الرئيس عبد الفتاح السيسي، قائد جيش مصر، الذى حمل على عاتقه مهمة بناء الجمهورية الجديدة بيد، ومجابهة مؤامرات إسقاط الدولة وإضعافها باليد الأخرى. ومن مصر انطلقت شرارة إسقاط حكم الإخوان الإرهابى فى كل الدول العربية، وبتأثير سقوط قطع الدومينو انتفضت تونس وليبيا، وتنبهت الأردن، فتمت محاصرة الإخوان وانتهت سطوتهم السياسية، إلا أن خطرهم سيظل قائما طالما هناك من يحتضن مشروعهم التخريبي، ويوظفه لخدمة مصالحه. قفز المصريون بدولتهم إلى الأمام بثورتهم على الإخوان وتمسكهم بهويتهم، وقدموا لوطنهم خدمة عظيمة، يجنون ثمارها اليوم بوجود نعمة الاستقرار والأمن فى محيط مضطرب ومنفجر، فالسلعة الأغلى والأهم لأى إنسان يعيش فى منطقتنا حاليا أصبحت هى الحفاظ على حياته فى بيئة مستقرة تحميه هو ومن يحبهم. فى حمى الوطن القوى يشعر الإنسان بالأمان، مطمئنًا لوجود من يسهر على حمايته، ويحرص على صون أمنه واستقراره، ويقرأ المخاطر المستقبلية بهدوء وحكمة، انطلاقًا من إدراك عميق لتعقيدات البيئة الإقليمية والدولية، لا يكتفى برصد التهديدات، بل يتبنى مقاربة شاملة للاستعداد لها، تبدأ من تعزيز قدراتها العسكرية والأمنية، وتمر عبر تأمين بنية اقتصادية مرنة قادرة على امتصاص الصدمات، وتنتهى بترسيخ وعى وطنى جامع، يُحصّن الجبهة الداخلية من الاختراق الفكرى والمعنوي، كل ذلك فى وجود سياسة متوازنة تحافظ على مصالحها الاستراتيجية، دون انجرار إلى محاور أو تنازلات.. أمن الوطن القوى لا يتم تركه للمصادفة، بل يتم صنعه بوجود القوة الرشيدة والقرار الواعي.