ترتبط مآذن القاهرة ارتباطًا وثيقًا بشهر رمضان، فهي ليست مجرد عناصر معمارية تعلو المساجد، بل هي رموز دينية وثقافية تشهد على تاريخ المدينة العريق. فمن فوق هذه المآذن، كان يُستطلع هلال رمضان، وتُضاء المصابيح إيذانًا بحلول الشهر الفضيل، كما كان يُرفع الأذان بصوت عذب يُسمع في أرجاء المدينة، معلنًا أوقات الصلاة والصيام والإفطار. لقد كانت المآذن عبر العصور أحد أهم المظاهر الاحتفالية بشهر رمضان، حيث استخدمت للإعلام ببدء الشهر الكريم، وللإعلان عن وقتي الإمساك والإفطار، فضلًا عن دورها الروحي في تعزيز الأجواء الإيمانية خلال هذا الشهر الفضيل. وفي هذا التقرير، نستعرض دور مآذن القاهرة في رمضان، وتأثيرها على حياة الناس، وطقوسها الخاصة التي امتزجت بالتقاليد والتراث المصري العريق. اقرأ أيضا : شارع المعز يستضيف فعاليات إبداعية مجانية خلال شهر رمضان ** المآذن: صوت الإسلام العالي** 1. وظيفة المئذنة عبر التاريخ منذ ظهور الإسلام، ارتبطت المآذن ارتباطًا وثيقًا بالأذان، حيث استخدمها المؤذنون لإعلام الناس بأوقات الصلاة. في البداية، كان الصحابي بلال بن رباح رضي الله عنه يؤذن من فوق أطول بيت حول المسجد، ثم أصبح يؤذن من فوق ظهر المسجد النبوي بعد بنائه. ومع انتشار الإسلام، تطورت العمارة الإسلامية، وأصبحت المآذن عنصرًا أساسيًا في بناء المساجد، حيث تميزت كل حقبة زمنية بطراز معماري فريد، يعكس هوية العصر الذي تنتمي إليه. 2. مآذن القاهرة: بين الجمال والوظيفة تُعرف القاهرة بأنها "مدينة الألف مئذنة"، نظرًا لكثرة المساجد التي تزين سماءها، ولكل مئذنة منها طابع خاص يعكس تأثير الحقبة الزمنية التي بنيت فيها. ومن أشهر هذه المآذن: - مئذنة جامع عمرو بن العاص: أقدم مئذنة إسلامية في مصر. - مئذنة مسجد السلطان حسن: من أجمل المآذن الإسلامية بطرازها الضخم وهيبتها المعمارية. - مئذنة مسجد ابن طولون: المئذنة الحلزونية الفريدة من نوعها. - مآذن شارع المعز: مثل مئذنة مسجد قلاوون، التي كانت تستخدم في استطلاع هلال رمضان. ** مآذن القاهرة واستطلاع هلال رمضان** 1. استطلاع الهلال عبر المآذن كان لمآذن القاهرة دور كبير في رؤية الهلال، حيث استخدمت بعض المآذن العالية كمراصد فلكية لتحديد بداية شهر رمضان. ومن أهم المآذن التي استخدمت لهذا الغرض: مئذنة جامع مشهد الجيوشي على جبل المقطم، حيث كان القضاة والعلماء يصعدون إلى أعلاها لاستطلاع الهلال. مئذنة مدرسة قلاوون في شارع المعز، والتي كانت تستخدم أيضًا في الرصد الفلكي وتحديد الأشهر القمرية. لقد كان رؤية الهلال مناسبة احتفالية كبرى، حيث كان القاضي ومن معه من العلماء والمشايخ يصعدون إلى المئذنة لرؤية الهلال، وعند التأكد من ظهوره، تُقرع الطبول، وتُضاء المآذن بالفوانيس إيذانًا ببدء شهر رمضان المبارك. ** المآذن والإضاءة الرمضانية: إشارات بدء الصيام والإفطار** 1. إشعال المصابيح في المآذن من العادات الرمضانية القديمة في القاهرة أن تُضاء المآذن بالفوانيس والمصابيح الملونة، وكانت هذه الإضاءة تعمل كإشارة مرئية لسكان المدينة عن حلول رمضان، وكذلك للإعلان عن أوقات الصيام والإفطار. كانت المصابيح الزجاجية تُعلق في صواري خشبية على قمم المآذن، ويتم إشعالها بعد صلاة المغرب، وتظل مضاءة طوال الليل، ثم يتم إطفاؤها عند أذان الفجر، وهي العملية التي كانت تُعرف باسم "وقت الرفع"، أي رفع المصابيح إعلانًا ببدء الصيام. ** المآذن ودورها في تحديد أوقات الإمساك والإفطار** 1. المآذن كوسيلة لضبط الوقت في العصور القديمة، لم يكن هناك ساعات حديثة لضبط الوقت، لذا كانت المآذن بمثابة ساعة المدينة، يعتمد عليها الناس في معرفة مواعيد الصلوات، وكذلك أوقات الإفطار والإمساك في رمضان. كان هناك شخص يُعرف ب"الميقاتي"، وظيفته تحديد أوقات الصلاة بدقة، ويُعلن وقت السحور والإفطار من خلال المآذن. كما كان المسحراتي يعتمد على المآذن كمرجع للتجول في الشوارع قبل الفجر لإيقاظ الناس للسحور. ** الطقوس الرمضانية المرتبطة بالمآذن** 1. مدفع الإفطار ومئذنة القلعة إلى جانب دور المآذن في الإعلان عن وقت الإفطار، ظهر تقليد جديد في العصر المملوكي، وهو مدفع الإفطار، الذي يُطلق من قلعة صلاح الدين بالقاهرة عند غروب الشمس، تزامنًا مع رفع أذان المغرب من المآذن، ليكون إشارة صوتية لسكان القاهرة ببدء الإفطار. 2. المآذن والفوانيس الرمضانية كان الأطفال في القاهرة يحملون الفوانيس وينشدون الأغاني الرمضانية أسفل المآذن، حيث كانت هذه الأماكن تُزين بالفوانيس الكبيرة، التي تضيء الشوارع ليلاً، مما يخلق أجواءً روحانية جميلة تعكس فرحة استقبال الشهر الكريم. 3. صلاة التراويح والتكبيرات من فوق المآذن في شهر رمضان، تعج المساجد بالمصلين الذين يؤدون صلاة التراويح، وكان المؤذنون يصعدون إلى المآذن بين ركعات الصلاة ليؤدوا التكبيرات والتهليلات التي تملأ سماء القاهرة، مما يعزز الروحانيات في هذا الشهر المبارك. ** المآذن في العصر الحديث: موروث رمضاني لا يزال قائمًا** على الرغم من التطورات التكنولوجية الحديثة وانتشار وسائل الإعلام والإعلانات الرقمية التي تُعلن عن حلول رمضان وأوقات الصلاة، لا تزال المآذن تحتفظ بمكانتها الرمزية والتاريخية في شهر رمضان. فحتى اليوم، لا يزال المسلمون ينتظرون سماع الأذان من مآذن المساجد، كما تُضاء المآذن بالفوانيس والأنوار احتفاءً بقدوم الشهر الكريم، لتظل شاهدة على عظمة التراث الإسلامي ودوره في تشكيل هوية القاهرة الروحانية. ومآذن القاهرة ليست مجرد أبراج تعلو المساجد، بل هي شواهد تاريخية لعبت دورًا محوريًا في حياة المصريين، خاصة خلال شهر رمضان. فمن استطلاع الهلال، إلى إشعال المصابيح، إلى رفع الأذان، كانت المآذن بمثابة قلب المدينة النابض خلال الشهر الكريم. واليوم، رغم تطور الزمن وتغير العادات، لا تزال المآذن تحتفظ بسحرها ورمزيتها في رمضان، لتظل شاهدة على عراقة القاهرة، مدينة الألف مئذنة، ومصدر النور الذي يهدي القلوب في ليالي الشهر الفضيل.