اشتهر تصوير الأحلام مطلع القرن العشرين مع الحركة السيريالية التي استلهمت اكتشافات "فرويد" و"يونج" حول عالم اللاوعي، لكن تاريخ الفن يحكى عن حضور الأحلام في الأعمال الفنية منذ آلاف السنين وإلى الآن، مع تنوع فى التناول والأساليب. وظلت دائما كبوابة إلهام سحرية تنفتح على عالم غامض يتداخل فيه الأرضى والسماوي، والحسي مع الأثيري، ولا يخضع للمنطق، ولا قوانين الواقع، وهو ما يمنحه سحره، ويجعل من رسم الحلم دائما محاولة للإمساك بالمستحيل. ◄ رؤى الأنبياء والقديسين في لوحات عصر النهضة ◄ الآباء المجهولون للسيريالية من عصر النهضة إلى القرن ال19 ◄ «ألبريخت» أول من رسم أحلامه الشخصية عرفت الأحلام أغلب التاريخ كرؤى تحمل رسائل من العالم العلوي، قبل أن تخضع للتفسير بوصفها انعكاسات رمزية لخفايا العقل الباطن من مشاعر ورغبات ومكبوتات وصدمات. ويرى "ميشيل فوكو" أن الأحلام كانت نقطة البداية للخيال الإنساني. ولذلك فليس غريبا أن تكون أحد مصادر إلهام الفنانين على مر العصور، وأن تحتل لوحاتها مكانة خاصة فى تاريخ الفن. ■ الحلم لبابلو بيكاسو ◄ أحلام قديمة فى مصر القديمة نظر للأحلام كرسائل إلهية، وصور بعضها على جدران المعابد والمقابر، ومن أشهرها "لوحة الأحلام" القائمة بين مخلبى "أبو الهول" وتصور حلم تحتمس الرابع من الدولة الحديثة 1400ق.م ب"أبو الهول" الذى طالبه بأن يزيل عنه الرمال، وأن يقوم بتجديده، وبشره بأنه سيصير ملكا على مصر. وفى بلاد الرافدين، تضمنت ملحمة جلجامش سلاسل من الأحلام، تم تصويرها على الأختام الأسطوانية، وفى نقوش بارزة، وتضمنت أحلام جلجامش عن لقاءاته بالآلهة، وتحذيرها له من بعض المخاطر. وفى الفن اليونانى صورت مشاهد من ملحمة "هوميروس" على المزهريات، وكرسوم جدارية، وتضمنت بعض الأحلام التى كانت وسيلة الآلهة لنقل إرادتها أو الإعلان عما تخبئه من أقدار. كما ظهرت الأحلام فى الفن الجنائزى لديهم كرابط بين الحياة والعالم الآخر. وفى العصور الوسطى رسمت أحلام الأنبياء والقديسين ضمن الفن الديني، بوصفها رؤى إلهية، ومنها حلم يعقوب ، وأحلام البشارة بميلاد المسيح، وغيرها. ■ جزء من لوحة حديقة الملذات الأرضية لهيرونيموس بوش من عصر النهضة ◄ حديقة الملذات اكتسب تصوير أحلام الأنبياء والقديسين رونقا خاصا مع تقنيات وأساليب عصر النهضة، التى جعلتها تنبض بالحياة، حتى أن بعضها يمكن اعتباره نوعا من السيريالية المبكرة مثل أعمال الفنان الهولندى "هيرونيموس بوش" التى وصل بعضها إلى حد الهذيان، والكابوسية. وهو ما فتن عددا من الفنانين، فقاموا باقتباسها حرفيا، وعرفوا بأتباع "هيرونيموس بوش". وهو صاحب اللوحة الثلاثية "حديقة الملذات الأرضية"، كما رسم العديد من القديسين والموضوعات الدينية فى أجواء من عالم الأحلام، حتى أن "كارل يونج" وصفه بالمكتشف الأول للاوعي. ورغم غزارة إنتاجه لم يبق له سوى 25 عملا مؤكدا، منها "سفينة الحمقى"، و"عربة التين"، و"الدينونة الأخيرة"، كما اشتهر من أعمال أتباعه لوحات مثل "رؤيا توندال" المستوحاة من قصيدة "رؤيا الفارس توندال" التى ترجع للعصور الوسطى، وتتناول حلم فارس ضال بالخلاص بعد أن رأى الجحيم. وتصور اللوحة عالم الجحيم بتفاصيل مفزعة. ■ شبح برغوث لوليام بليك وكانت الأحلام قد ظهرت فى أعمال الفن الدينى للفترة الممهدة لعصر النهضة، مثل "حلم يواكيم" للفنان "جيوتو" فى القرن 14، بكنيسة "سكروفيني"، وتصور ظهور الملاك لوالد السيدة العذراء معلنا عن حملها الإعجازي. ■ في الحلم لوليام بليك طباعة حجرية ◄ أحلام شخصية ولم تخل المخطوطات المزخرفة فى عصر النهضة من رسوم الأحلام، ومنها كتاب "الساعات". كما رسم عدد من الفنانين حلم يعقوب، من الكتاب المقدس، ومنها رسم ل"وتريل" يرجع إلى الفترة بين القرنين 14، 15. ورسمه "رفاييل" عام 1518، مع سلم يمتد إلى السماء، وملائكة يصعدون وينزلون عليه، ورسمه أيضا "نيكولاس ديبري". وقد تبلورت تصوراتهم عن الأحلام بعد الاتصال بالثقافة الكلاسيكية، وقراءة كتابات أبقراط وأرسطو، واشتعل الهوس بذلك العالم مع كتابات الفيلسوف الفلورنسى "مارسيليو فيسينو" فى القرن 15، وتفسيره للأحلام كرحلة تتجول خلالها الروح مفارقة الجسد، ومخترقة للقوانين. ■ لوحة المتجول في بحر الضباب للفنان كاسبر ديفيد كما يبرز الفنان الألمانى "ألبريخت دورر" بلوحاته من عالم الأحلام مثل "الفارس والمارد والشيطان" 1513. وهو فنان ذو خصوصية؛ إذ لم يكتف بأحلام الكتاب المقدس، ورسم أحلامه الشخصية، مثل لوحته المائية "رويا الحلم" 1525، التى صور فيها حلما رأى فيه مياها عظيمة تنزل من السماء مصحوبة بالرياح والهدير. وتأثر بالحلم حتى أنه استيقظ مرتجفا، ولم يتعاف لفترة طويلة. ورسم اللوحة بسرعة، وكتب تفسيره على نصف الصفحة. كذلك رسم الفنان الفينيسى "لورينزو لوتو" عالم الأحلام مستوحيا الأساطير الكلاسيكية كما فى لوحة "أبولو النائم وإلهة الشهرة". ■ لوحة إلهام القديس ماثيوس للفنان كرافاجيو من حقبة الباروك ◄ اقرأ أيضًا | «أبو العزم».. أحد فرسان الهوية الشعبية ◄ كوابيس رومانسية فى حقبة الباروك تواتر رسم الأحلام، بداية من لوحة "كرافاجيو" "إلهام القديس ماثيوس" التى صور فيها لحظة الوحى الإلهي. وأعاد "آرى دى فوا" رسم حلم يعقوب، فى لوحة حسية، ورسمت "أرتميسيا جنتلسكي" "جوديث وخادمتها ورأس هولوفرنيس" مع عمق نفسي، كما رسم "جورج دى لا تور" "حلم القديس يوسف" 1640، مصورا الملاك يأمره بالفرار مع العائلة المقدسة إلى مصر. وتميزت لوحات تلك الفترة بالشحنة العواطفية، والتراكيب الديناميكية، والتناقضات الحادة بين النور والظلال. واكتسب تصوير الأحلام مزيدا من المشاعر والكابوسية فى الحقبة الرومانسية، كما فى لوحة "المتجول فوق بحر الضباب" ل"كاسبر ديفيد" 1818، ولوحة "هنرى فوسيلي" "الكابوس" 1781 والتى تصور شيطان "إنكوبس" جاثما على صدر امرأة نائمة. وهى لوحة مبتكرة، وتخلو من الوعظ الأخلاقي، ولا تعتمد على نص أدبي. ويقال إن "فرويد" احتفظ بنسخة طبق الأصل منها فى شقته بفيينا، واعتبرها تمهيدا لنظريات التحليل النفسي. كذلك جاءت بعض لوحات "فرانشيسكو جويا" فى أجواء كابوسية عاكسة أهوال محاكم التفتيش التى عاصرها، ومنها لوحته "نوم العقل ينتج وحوشا" التى تصور شخصا نائما، تهاجمه الوحوش من كل اتجاه. ■ لوحة إلهام القديس ماثيوس للفنان كرافاجيو من حقبة الباروك ◄ رموز روحية وفى الشمال كان الشاعر والفنان الإنجليزى "وليام بليك" يرسم مشاهد من عالم الأحلام بناء على طلب الفنان والمنجم "جون فارلي"، ومنها لوحته "شبح برغوث" التى استوحاها من جلسات تحضير الأرواح التى قاما بها معا. وكان ل"بليك" أحلام يومية من الطفولة، اعتبرها رسائل إلهية، وتضمت شخصيات مقدسة مثل داوود وسليمان والمسيح والنبى محمد. ورغم أنه لم يقدر إلا بعد موته بخمسين عاما، ونظر له فى حياته كمجنون، لكن لاحقا اعترف به كأحد العباقرة. كذلك صورت أغلب أعمال المدرسة الرمزية موضوعاتها، وكأنها لقطات من عالم الأحلام، مع نظرة تصوفية للعالم، مثل لوحة "العين مثل البالون الغريب تتجه نحو اللانهائي" 1882 للفنان "أوديلون ريدون" والذى لقبته الناقدة "ثادى نتانسون" بملك الأحلام. وقد نفذ العديد من أعماله كمطبوعات حجرية أواخر القرن 19، وبألوان ضبابية. ومن الحقبة ذاتها تبرز أيضا لوحة "الظهور" 1876 للفنان "جوستاف مورو" وتقدم رؤية من عالم اللاوعى لسالومي، وهى تحمل رأس يوحنا المعمدان. كما تعتبر لوحة "الغجرية النائمة" 1897 ل"هنرى روسو" من اللوحات التى يلتبس فيها الواقع مع الحلم. ■ لوحة ثبات الذاكرة لسلفادور دالي ◄ ملاذ جعل التحليل النفسى من تصوير الأحلام ملاذا للسيرياليين في القرن 20، لتجاوز الواقع وقيود العقلانية والقواعد الاجتماعية التى قادت العالم إلى الحرب العالمية الأولى، كلوحة ثبات الذاكرة لسلفادور دالى 1931، التى تنصهر فيها الساعات، ولوحته "الحلم الناجم عن طيران نحلة حول رمانة.." 1944، ورسم فيها زوجته وملهمته "جالا" نائمة طافية فوق صخرة محاطة بالماء، وينقض عليها نمر يخرج من فم سمكة تخرج من رمانة. كذلك لوحة "ابن الإنسان" ل"رينيه ماجريت" التى مزجت الواقع بالأحلام، ولوحته "مفاتيح الأحلام" 1930 التى رسم فيها بيضة وحذاء وقبعة وشمعة وكأسًا، وكتب عليها أسماء أشياء أخرى لا علاقة لها بها مثل أكاسيا قمر ثلج سقف عاصفة صحراء، ما يثير التساؤل حول العلاقة بين الفن واللغة والواقع. كما جمعت أعمال "ماكس إرنست" بين الطبيعة الغرائبية المستوحاة من الأحلام، والأشكال الميكانيكية والواقع الكابوسي. ورسم "بيكاسو" بأسلوبه التكعيبى لوحته الشهيرة "الحلم" 1932 مستلهما حبيبته وقتها "مارى تيريز والتر" التى كانت فى الثانية والعشرين. وصورها نائمة، تغط فى حلم يقظة حسي. أما الفنان "خوان ميرو" فكان له فهمه الخاص للأحلام، وعبر عنه قائلا: "أنا لا أحلم أبدا.. بل أحلم طوال الوقت، لكنها ليست أحلاما فرويدية، بل أحلام يقظة". ■ مفتاح الأحلام لرينيه ماجريت وتعرف اللوحات التى رسمها بين عامى 1925، 1927 باسم لوحات الأحلام، وتقدر بحوالى مائة، مرسومة بأسلوب تجريدى غنائي، ويغلب اللون الأزرق على خلفياتها. ووصفت بأنها سيريالية تجريدية، وتأثر فيها بعدد من الفنانين والشعراء الذين عايشهم فى باريس. ولم تتوقف الأحلام عن إلهام الفنانين المعاصرين في مجالات الفنون الرقمية والوسائط المتعددة، ومنها "غرف المرايا اللانهائية للفنانة "يايوى كوساما" التى خلقت بيئة أثيرية من عالم الأحلام من خلال التشكيل فى الفراغ. كما عبرت تركيبات الفيديو ل"بيل فيولا" عن عالم الأحلام، وسعت لاستكشاف موضوعات مثل الموت وعوالم الروح من خلال أعمال مثل "نوم العقل" 1988.