المشاط: 7.6 تريليون جنيه استثمارات عامة مباشرة وغير مباشرة للتنمية البشرية خلال 12 عامًا    منها جدولة الأقساط.. هيئة التنمية السياحية تقر تيسيرات جديدة للمستثمرين    نائب وزير الإسكان يشدد على الالتزام بمعايير وقوانين المياه المعالجة    غارات وعمليات نسف.. الاحتلال يواصل انتهاك وقف إطلاق النار بغزة    عاجل- محمود عباس: زيارتي لفرنسا ترسخ الاعتراف بدولة فلسطين وتفتح آفاقًا جديدة لسلام عادل    بيان رسمي.. الأهلي يطالب اتحاد الكرة بردع المتجاوزين في حق «زيزو»    بتروجت يواجه النجوم وديا استعدادا لحرس الحدود    وزير التعليم: مصر تواصل تنفيذ المبادرة الرئاسية لتعيين المعلمين    ترامب يطلب العفو عن نتنياهو رسميًا.. وهرتسوغ يرد: "اتبعوا الإجراءات"    الرقابة المالية تتيح لشركات التأمين الاستثمار في الذهب لأول مرة في مصر    استبعاد المرشحين ومندوبيهم من حضور فرز الأصوات يؤكد النية المبيتة لتزوير انتخابات مجلس نواب السيسي    بعد انخفاض الكيلو.. أسعار الفراخ اليوم الأربعاء 12 نوفمبر 2025 في بورصة الدواجن    كاميرا توثق جريمة سرقة.. والداخلية تضبط المتهم| فيديو    انهيار عقار بمنطقة الجمرك في الإسكندرية دون إصابات    تامر حسني يوجه رسالة ل«مي عز الدين» بعد زواجها    نقيب العاملين بالسياحة: لمس الآثار إتلاف يعاقب عليه القانون بالحبس والغرامة    ذكرى رحيل محمود عبد العزيز.. محطات وأسرار في حياة ساحر السينما المصرية    عُطل فني.. مسرح الطليعة يوجه رسالة اعتذار ل جمهور عرض «كارمن»    رئيس الوزراء يشهد مراسم توقيع مذكرة تفاهم فى الرعاية الصحية بين مصر ولاتفيا    رئيس الوزراء يتفقد معرض سمارت ديجيتال هيلث جيت    وزير دفاع إسرائيل يغلق محطة راديو عسكرية عمرها 75 عاما.. ومجلس الصحافة يهاجمه    عاجل- رئيس الوزراء يشهد توقيع مذكرة تفاهم بين مصر ولاتفيا لتعزيز التعاون فى مجالات الرعاية الصحية    اليابان تتعاون مع بريطانيا وكندا في مجالي الأمن والاقتصاد    «عندهم حسن نية دايما».. ما الأبراج الطيبة «نقية القلب»؟    حملات تموينية موسعة بالقليوبية تكشف مخالفات جسيمة وسلعًا غير صالحة للاستهلاك    منتخب مصر يخوض تدريباته في السادسة مساء باستاد العين استعدادا لودية أوزبكستان    المشدد 15 و10 سنوات للمهتمين بقتل طفلة بالشرقية    السعودية تستخدم الدرون الذكية لرصد المخالفين لأنظمة الحج وإدارة الحشود    مصرع عامل نظافة سقط من على مقطورة فى المنوفية    الأهلي يضع تجديد عقد ديانج في صدارة أولوياته.. والشحات يطلب تمديدًا لعامين    زيركزي يدرس 5 عروض للرحيل عن مانشستر يونايتد في يناير    وصول بعثة يد سموحة للإمارات لمواجهة الأهلى فى نهائى كأس السوبر    جوتيريش يهنئ الشعب العراقى على إجراء الانتخابات البرلمانية    «العمل»: التفتيش على 257 منشأة في القاهرة والجيزة خلال يوم    فيلم «السلم والثعبان: لعب عيال» يكتسح شباك تذاكر السينما في 24 ساعة فقط    خالد سليم ينضم لأبطال مسلسل ست الحسن أمام هند صبرى فى رمضان 2026    الحبيب الجفرى: مسائل التوسل والتبرك والأضرحة ليست من الأولويات التى تشغل المسلمين    دار الإفتاء توضح حكم القتل الرحيم    ما الحكم الشرعى فى لمس عورة المريض من قِبَل زوجة أبيه.. دار الإفتاء تجيب    6 مرشحين يتأهلون لجولة الإعادة في دائرة بندر ومركز المنيا البرلمانية    إطلاق قافلة زاد العزة ال71 بحمولة 8 آلاف طن مساعدات غذائية إلى غزة    قصر العينى يحتفل بيوم السكر العالمى بخدمات طبية وتوعوية مجانية للمرضى    طريقة عمل كفتة الفراخ بخطوات بسيطة وطعم لا يقاوم (الخطوات والمقادير)    مصر وجنوب إفريقيا يبحثان التعاون في صناعات السيارات والحديد والصلب والمناطق اللوجيستية    «لو الطلاق بائن».. «من حقك تعرف» هل يحق للرجل إرث زوجته حال وفاتها في فترة العدة؟    محافظ الفيوم يشهد الندوة التوعوية"دور الرقابة الإدارية في الوقاية من الفساد ومكافحته"    اليوم.. عزاء المطرب الشعبي إسماعيل الليثي    وزير الخارجية يعلن انعقاد المنتدى الاقتصادي المصري – التركي خلال 2026    تعرف على أكبر نتائج مباريات كأس العالم للناشئين بعد ختام دور المجموعات    «وزير التنعليم»: بناء نحو 150 ألف فصل خلال السنوات ال10 الماضية    المصرية جمانا نجم الدين تحصد لقب أفضل قنصل لعام 2025 في المملكة المتحدة    رئيس هيئة الرقابة المالية يبحث مع الأكاديمية الوطنية للتدريب تطوير كفاءات القطاع غير المصرفي    بيزيرا: لم أقصد الإساءة لأحد.. وأعتذر عن الخطأ غير المقصود    استقرار سعر الريال السعودي في بداية تعاملات اليوم 12 نوفمبر 2025    مباحث الجيزة تكتشف جريمة بشعة داخل شقة مهجورة فى بولاق الدكرور    محافظ الغربية: رفع درجة الاستعداد القصوى لانتخابات مجلس النواب 2025    دعمًا لمرشحيه بمجلس النواب.. «مستقبل وطن» ينظم مؤتمرًا جماهيريًا بدمياط    دعاء الفجر | اللهم ارزق كل مهموم بالفرج واشفِ مرضانا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التوحد بالطبيعة واستحضارُ العِلم :قراءةٌ استِعادِيّةٌ فى شِعر الدكتور أحمد مستجير
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 26 - 01 - 2025


محمد سالم عبادة
منذ الأسطُر الأولى فى إهداء ديوانِه الأوّل، يُلقَى فى رُوع المتلقّى أنّه فى حضرة شاعرٍ يؤمن بأنّ الوجود البشَريّ هو وجودٌ للآخَر وبه. هكذا يتساءلُ الإهداء «لِمَن أُرسِلُ الشَّدوَ يا صاحِبي؟ ومَن يَسمعُ الشدوَ غيرُ الرّفيق؟ أليسَت حياتى لهُ همسةً؟ فكيف تضِلُّ إليهِ الطّريق؟ أليسَ وجودى لهُ عَزْفَ نايْ؟...» وهو بدافعٍ من هذا الإيمان يَعجبُ من غياب التجاوُب بين رفاق الحياة الإنسانيّة ويستنكِرُه. ويتجلّى هذا الإيمانُ فيما يَخلعُه الشاعرُ على الآخَر من قيمةٍ إيجابيّةٍ عظيمةٍ، ولا سيّما حين يكون الآخَر هو الحبيبة، فعلى المرأةِ الحبيبة مَدارُ مُعظم ديوانَيه «عزفُ نايٍ قديمٍ» و «هل تَرجعُ أسرابُ البَطّ؟». نلمس هذه القيمةَ فى خوفه من ضياع الحبيب/ الحبيبة، كما فى قصيدة «أخافُ ان تضيع»: «أوّاهُ، قد فقدتُ كلَّ شيءٍ فى الزمانِ، كلَّ شيءْ! أخافُ يا حبيبْ/ لو عادت الطيورُ فى المساءِ دُونَ أن تعودْ». كما نلمسُها فى بكائه لضياع فرحة الحبيبة فى «دمعةٌ فى إثرِ دمعة» إذ يقول: «ما الذى أطفأَ أنوارَ ابتسامِكْ؟ ما الذى أسكتَ أجراسَ ربيعِكْ؟ ما الذى حوَّلَ نهرَ الحُبِّ دمعًا يا حبيبةْ؟!». ونلمسُها كذلك فى الإشفاق على رفيقِه الإنسان من مطارَدة السّراب، كما فى «الأمانى الكاذبة»، إذ يقول: «والضوءُ يَخدعُ يا صديقى فى المساءْ/ الظِّلُّ خلفكَ يَتبعُكْ/ لن يَترُكَكْ/ سيظلُّ يكبرُ يا رفيقْ/ حتى يغطِّيَ كلَّ شبرٍ فى الطريقْ!».
انتمى الديوانان بكُلّيّتهما إلى شِعر التفعيلة، عدا قصيدة «وجَرِّبى يا حبيبةْ» التى صِيغت عموديّةً فى البحر المُجتَثّ «مُستَفْعِلُنْ فاعلاتُنْ»، فتقاسَمَت القصائدَ الأخرى بُحور الوافر والكامل والرَّجَز والرَّمَل والمتقارِب والمتدارَك بتفعيلَتَيه «فاعِلُنْ فاعِلُنْ» والخَبَب «فَعِلُنْ فَعِلُنْ».
وقد ألجأَت الضرورةُ الشِّعريّةُ العَروضيّةُ شاعرَنا إلى بعض التصرُّفات التى لا تُسيغُها الذائقةُ اللغويّةُ الجَمعيّة، فقال فى نهاية قصيدة «خَدّى على خدِّك»: «شَفْتى على شَفَتِكْ» بتسكين الفاء لتَخضع الجُملة لتفعيلةِ بَحر الرَّجَز هنا (مُسْتَفعِلُنْ فَعِلُنْ).
كما قال فى قصيدة «فى الليل»: «لن تجِدْ غيرى وحيدًا فى الطريقْ» جازمًا الفعلَ المضارعَ وحقُّه أن يُنصَب بالفتحة، ليَخضع السطرُ الشِّعريُّ لتفعيلة بَحر الرَّمَل «فاعِلاتُنْ».
هذا فضلًا عن تجاوُزاتٍ فى إيقاع البحر المُجتثّ فى «وجرّبى يا حبيبةْ»، كإشباع كَسرةِ تاءِ المُخاطَبة فى فعلِ «قرأتِ» فى صَدر البيت القائل:
أخرَجتِها وقرأتِ
منها السُّطورَ الحزينةْ
الرومَنسيّةُ وتجلّياتُ العلاقة مع الطبيعة
ولا يفوتُنا تواتُر المفردات والتراكيب المنتمية إلى التيّار الرومنسيّ فى الشِّعر العربيّ، فمفردات (الظِّلال-الهمس-الكئيب-الصمت-الناي-القيثار) مبثوثةٌ فى قصائد الديوانَين، وغيرُها كثيرٌ ممّا يتّصل بدلالاتِها. ولا يقتصر الأمرُ على المفردات الرومَنسيّة، بل إنّ جوهر النظرة الرومنسيّة إلى العالَم حاضرٌ بقوّةٍ فى كثيرٍ من القصائد، فالنظر إلى الوجود الإنسانيّ بوَصفِه وجودًا هشًّا مقيَّدًا بالضرورة ولا فِكاك من قيوده التى إذا تحرَّر منها لم يعُد له أثرٌ، ومفارَقة التطلُّع إلى تحقيق الحُرّيّة الإنسانيّة مع حتميّة الفَناء إذا ما تحقَّقَت، موجودان على نحوٍ كثيفٍ هنا، ولا سيّما فى قصيدة «كلُّ أيّامي» من ديوان «عزفُ نايٍ قديم».
فمن مَطلع القصيدة قولُه مخاطبًا الزمان: «كلُّ أيّامى قيودٌ من خلالِكْ/ كلُّ أيّامى سكونٌ فى سجونٍ، قيّدَت جسمى فما منها فِكاكْ/ ليس يُجديهِ صِراعٌ أو عِراكْ/ وقيودى تتلاشى تتلاشى، فإذا راحَت فقد رحتُ هباءْ!».
ولا تلبث رؤية القصيدة أن تَسقُط فى فخّ مِثاليّة (فِشتَه Fichte) الذاتيّة فى نهايتها، إذ يقول: «ليس يعنينى بقاءٌ للفضاءْ/ فسيفنَى بزوالي/ فهو جزءٌ من كياني..» إلى ان يَختمُ بقولِه: «كلُّ شيءٍ من وجودي/ فإذا مِتُّ فقد ماتَ الوجودْ!»
ومن آيات الانتماء الرومنسيّ فى الديوانَين ذلك التقديسُ لمَظاهر الطبيعة والتوحُّد معها. والعلاقة بالطبيعة تتّخذ صُورًا متعددةً فى الديوانَين:
فهناك أوّلًا الربطُ بين الحبيبة وبين مَظاهر الطبيعة مفرداتٍ ومعاني، ويتجلّى فى قصيدة «حين أراكِ» من ديوان «هل ترجعُ أسرابُ البَطّ؟»، حيث يقول: «حين أراكْ/ أتسامى فأحيطُ بهذا الكونِ وأُمطرِهُ قُبَلا/ وأَرِقُّ، أشِفُّ لأسبحَ فوقَ جبينِكِ طَلّا» ويقول: «حين أراكْ/ يتفجّر ينبوعُ البهجة، هذا المكنونُ بأعماقى من زمنٍ أسيانٍ ولَّى/ ويَفيضُ جداولَ تغمرُ حقلَ العُمرِ القَحلا/ تتزاحمُ أزهارُ الرَّوضِ جميعًا كى تَطرحَ فى شَعرِكِ فُلّا/ تتوافدُ أطيارُ الغاباتِ مصفِّقةً ثَملَى...».
وثانيًا، هناك الربطُ اللطيفُ المبتكَر بين العواطف فى تناقُضها وبعض الصُّوَر الطبيعيّة المناسِبة لها، كما فى قصيدة «هذا الحُبّ»، إذ يَجعلُ الضوء الأبيض معادلًا للحُبِّ البسيط الكامل فى وضوحه، فى مقابل ألوانه الكثيرة التى يتحلّل إليها مع شروق الشمس، إذ يجعلها معادلًا لعواطف المتناقضة المرتبِكة، فيقول: «هذا الصبحَ قُبيلَ ظهورِ الشمسْ/ أبصرتُ اللونَ الأبيضَ يملأُ هذا الكونْ/ هذا اللونُ الأبيضُ حُبّي/ يمنحُ كلَّ الأشياءِ اللونْ»، ثمّ يتحوّل قائلًا: «آهٍ، قد بدَت الشمسْ!/ إيّاكَ وهذا المنشورْ!/ لا تنظر فى هذا المنشورْ/ يتحللُ هذا اللونُ الأبيضُ، لا يصبحُ ذاكَ الشيءَ الواحدْ/ بل أشياءْ/ حمراءً صفراءً خضراءً زرقاءْ لا تعنى شيئًا/ أشياءً يا رَبّي، ليست بيضاءَ كحُبّي!».
وثالثًا هناك التوجُّه إلى الطبيعة بصفته أمرًا يستتبعُه الاتّحادُ بالحبيبة، كما فى «خَدّى على خدِّك» فى «عزفُ نايٍ قديم»، إذ يقولُ: «خدّى على خدّكْ/ ولْنَرقُب الشجرةْ/ جذورُها فى الطينْ/ تمتصُّ رُوحَ الأرضْ.....» إلى: «أما تَرِى أنّا/ كهذه الشجرةْ؟/ خدّى على خدّكْ/ ولنعشَق الشجرةْ». وتتلو ذلك فقراتٌ أخرى تنتهى هكذا: «خدّى على خدِّك/ ولننشَق الزهرا – خدّى على خدّك/ هذى فَراشَتُنا – خدّى على خدِّك/ ولْنَعشَق الطَّيرا» إلى أن يصِل الاتّحادُ بالحبيبةِ –ومِن ثَمّ الاتّحادُ بالطبيعةِ باعتبارِ الطِّفلةِ آيةَ آياتِها- إلى أقصاه مع تأمُّل صورة الطِّفلة اللاهية وهى تعتلى الشجرةَ أو تحتمى بالظّلِّ أو تداعبُ الزهرةَ أو تشدو مع العصفور، فيقولُ: «خدّى على خدِّك/ شَفْتى على شفَتِكْ/ وَلْنَخلُق الطِّفلةْ!».
ورابعًا، يُنطِق الشاعرُ أحيانًا الشجرَ والزهرَ – مخلوقاتِه الأثيرةَ- بما تَجيشُ به نفسُه من مَشاعرَ، ففى «همس الكَزوَرينا»، بعد أن يَرسُم خلفية المَشهد زراعيةً كما يحبُّها «عند أعوادِ الذُّرةْ/ قُربَ عِيدانِ الحطَبْ/ تحت ظلٍّ يحتويني/ بين همسِ الكَزوَرينا/ وضجيجِ الذِّكرياتِ»، يُطلِعُنا على بكائه الصامتِ وحُزنِه لفَقد الحبيبة، ليَختم القصيدةَ بأن يحوِّل بُطولةَ المَشهَد الشِّعريِّ من ذاتِه إلى أحد عناصر الخَلفيّة الزراعيّة، فيقول: «فى فراغٍ ملأَتهُ الكَزوَرينا بالصُّراخِ الهامسِ: إيهِ يا وادى العَدَمْ! هل أنامُ الليلَ فيكْ/ فأكونَ الصُّبحَ مِنكْ؟!» هنا يَخلع العاشقُ المُحبَطُ أحزانَه ورغبتَه فى التخلُّص من عبء الوجود على الشجرة، فنسمعُها تحدِّث نفسَها بهذا الحديث الكئيب.
وخامسًا، هناك اتّخاذُ مَظاهر الطبيعة مَجلىً لصيرورة الحياةِ الأبديّة، كما فى «سقطَت زَهرة»، فالجانب القريب إلى الشاعر من الوجود مفعمٌ بمظاهر الموت والفناء والاتّجاه إلى العدم، ودائمًا تبقى ورقة أو قطرة واحدةٌ تروى قصّة ما كان أو تظلُّ تذكِّر الشاعر بمأساة الفَناء بعد الوجود، فيقول: «سقطَت زهرةٍ/ قُربَ القَدمِ/ واستيقظَ عصفورٌ يصرخُ فى ألَمِ/ وبه جُرحٌ يَدمَى ليَطيرَ إلى وادى العَدَمِ/ بقيَت قَطرةْ/ من دَمِه تَنزفُ فى عَيني!».
ويقولُ قريبًا من ذلك عن الشجرة الذاوية الورقة الباقية منها. أمّا فى الجانب البعيد «على الشطّ الآخَر» فهناك صورة وجودٍ يتفتّح: «بدَت الزهرةْ/ أعلى شجرَةْ/ واستيقظَ عصفورٌ هانئْ/ يَصدحُ للزَّهرةِ والشاطئْ».
تبدو القصيدةُ فى ختامها حكايةً بوذيّةً عن سامسارا (الصَّيرورة)، أو وقفةً صوفيّةً رامزةً إلى تقلُّب أحوال الخَلق وثَباتِ الحَقّ.
وسادسًا، لنا أن نسمِّى قصيدةَ «غدًا نلتقي» ذروةَ العلاقة بالطبيعة، فالشاعر يجرِّد من نفسِه رفيقًا يخاطبُه ويلومُه لأنّه يتحدّث عن جَمال الحبيبة ويَنسى أصلَ الجَمال فى الطبيعة، فيقول مثلًا: «ستعشقُ يا صاحِبى واحدةْ/ ككُلِّ النساءْ/ سترنو إليها كأصلِ الجَمالْ/ وتنسى جذورَ الجَمال هناك بعيدًا بجَوف الطبيعةْ/ فتنسى المياهَ وعِطرَ المُروجْ/ وتنسى السَّماءَ وسِحرَ النُّجومْ...».
ثمّ يسترسِل فى المقارَنة بين أصوات كائنات الطبيعة وصوت الحبيبة، وجلال الطبيعة وهدوء الحبيبة، وثورة عناصر الطبيعة وهَجر الحبيبة، ليعترفَ فيما يشبه النَّدَم بأنّه وقع فيما يَلومُ فيه رفيقَه: «ولكنّنى يا صديقى عشقتْ!/ وكان الجَمالُ جَمالَ الحبيبْ/ ولم يُشجِنى غيرُ صوتِ الحبيبْ...»، ثمّ يحدّثَنا عن صحوَتِه المباغتة: «فلمّا أفقتُ وجدتُ القمرْ!/ أخى والشجَرْ/ وصوتَ الجنادبِ والضفدعِ» إلى أن يَختم قائلًا: «قبضتُ على حَفنةٍ فى يَدي/ وألقيتُها فى مِياهِ الغَديرْ/ وقُلتُ سلامًا، غدًا نلتقي!».
وهو يُبهِمُ المقصودَ بهذا الختام، فهو إمّا تذكُّرٌ لَطيفٌ للحبيبة وأملٌ فى لقائها، وإمّا حديثٌ لعناصر الطبيعة، كأنّه حنينٌ إلى اللحظة التى تَفنى فيها ذاتُه ويعودُ جسدُه تُرابًا يعيشُ حياةً أخرى فى مَظاهر هذه الطبيعة، فيكون لقاءٌ واتّحادٌ بينه وبين ما يرى حولَه، وهو المعنى الأعمقُ بالتأكيد.
قصائدُ متينةُ البُنيان
بين قصائد الديوانَين المتراوِحة فى مَتانة بُنيانِها، هناك ثلاثُ قصائد لعلّهما الأمتَنُ والأوضحُ نسَقًا، أولاها «مُناجاة» فى «عَزفُ نايٍ قديم».
وقد بُنِيَت على تجريدٍ تصاعُديٍّ هرَميٍّ، يبدأ بالحلِف بالحبيبة وإبداء الرغبة فى سماع كلماتها، ثمّ يعود فيقول إنه لا يريد ذلك بل لا يطمع فى شيءٍ فوق النظرة، فيقول: «لا أحلِفُ إلا بكْ! لكنّى أرغبُ فى أن أسمعَ صوتَ النايْ/ ينسابُ طَروبًا من شفتيكْ/ كى أحلِفَ بالسحرِ الصافى فى معسولِ كلامِكْ!»، ثمّ يقولُ: «لا أرغبُ حتى فى الكلِمةْ/ بل تكفينى لَفتةْ/ .... كى أحلِفَ دومًا/ بظلالِ مُروجِ الحِنطةِ تَبرُقُ مِن بين جُفونِكْ».
ويظلّ طموحُه يتصاعد متجرّدًا، وتزدادُ معه تشبيهاتُه أثيريّةً وابتعادًا، فيقول: «لا اطمحُ جحتى فى النظرةْ! ودعينى ألمحُ قدَّكِ يَختالُ بعيدًا/ كى أحلِفَ بالخطوةِ تصبحُ موسيقى من قَلبِ الجَنّةْ.» ويصِل التجريدُ إلى أقصاهُ فى الخِتام فيقول: «الحَقَّ أقولْ/ إنّى لا أطمعُ تى فى أن أرقُبَ خَطوَكْ/ وفقطْ كُونِى .. لا تَمضِي/ كَى أعشَقَ فيكِ اللهْ/ حتى لا أَحلِفَ إلّا باللهْ/ يا ظِلَّ اللهِ على الأرضْ!» ففى النهاية تبدو القصيدةُ رحلةً من الجَمال البشَريّ متجسّدًا إلى الجَمال الإلهيّ مجرّدًا منزَّهًا عن إدراكِ العاشق.
أمّا القصيدة الثانية فهى «لكن قُل لي» فى «هل تَرجع أسرابُ البَطّ؟»، وفيها تتلاحق الأسئلة والإجابات بين الشاعر ورفيقٍ تخيُّليٍّ يجرِّده من نفسه، فالصديقُ يسألُه عن معنى الحُبّ، فمعنى الشِّعر، فالموسيقى، فالكون، فالدَّهر، ثمّ يَختم بسؤالِه عن الإنسان «مَن نحنُ؟»، ويُجيبُه الشاعرُ متقنّعًا بقِناع الحكمة، بادئًا بأنّه «لا معنى للحُبّ. الحُبُّ هو المعنى!»، ثمّ يتدرّج حتى يصِل فى إجابة السؤال الأخير إلى: «موجاتٌ من موسيقى أشعارِ غَرامٍ كَونيَّةْ/ يتجسّدُ معناها زمَنا!». هكذا يأخذ بعضُ الأسئلة بأيدى بعضٍ، ليقدِّم الشاعرُ الحكيمُ تصوُّرًا ختاميًّا عن كُنه الإنسان، مُفادُه أنّه ليس إلّا موجاتٍ تثور على سَطح الوجود، قِوامُها موسيقيٌّ شِعريٌّ ناطقٌ بالحُبّ متّجهٌ إلى الكون، ثمّ تختفى تدريجيًّا حتى تتلاشى كما تختفى الموجات!
والقصيدة الثالثة هى «لماذا عشقت؟» من الديوان الأخير. وهى مبنيّةٌ على فكرة الدور المنطقى الذى يتأسس عليه الحُبُّ كما يتأسًّس عليه الإيمان، أى أنّها تقدِّم حِجاجًا للإجابة عن سؤال العِشق يَلوذُ بإبطال المَنطق ويُحيلُ إلى ذاتِه، فيقول: «تسافرُ عينُكَ فى الأفقِ حينًا وتسألُنى حين تَرجعْ/ لماذا عشقتْ؟/ يجيبُكَ طَيفٌ حزينٌ بعَينيَ يَلمعْ/ لأنّى استطَعتْ/ لماذا بحبِّك فوق السحابِ سَمَوتْ؟/ لأنّى استطعتْ/ لماذا تقدِّسُ هذا الغَرامَ وتعلمُ انكَ تَقبضُ ريحًا وتَطحنُ ماءً وتَحرثُ بحرًا وتنثُرُ حَبًّا بأرضٍ مَواتْ؟/ لأنّى استطعتْ/ وكيفَ بحَقِّ السماءِ استَطعتْ؟/ بأنّى عَشِقتْ/ بأنّى بحُبّيَ فوقَ السماءِ سَمَوتْ/ بأنّيَ قدّستُ هذا الغَرامَ وأعلمُ أنّيَ أقبضُ ريحًا وأطحنُ ماءً وأحرثُ بَحرًا وأنثرُ حَبًّا بأرضٍ مَواتْ!/ وتَرجعُ عينُكَ للأفقِ ثانيةً ثُمّ تَدمَعْ». هكذا يتّضِح أنّه ما من سببٍ قاطعٍ للحُبّ، وما من مصيرٍ نهائيٍّ للحُبّ إلّا الإخفاق، فهو قبضُ ريحٍ وحَرثٌ فى البحر ونثرُ َبٍّ بأرضٍ مَواتٍ، لكنّه لا بُدَّ منه لِمَن استطاعَ إليه سبيلا!
استدعاءُ العِلم
يَحسُنُ بنا أخيرًا إلى ان نُلمِح إلى حضور المعرفة العِلميّة فى قصيدة شاعرِنا حضورًا لطيفًا موظَّفًا على نحوٍ يَخدمُ مَراميَه ومقاصِدَه.
وهو حضورٌ مبثوثٌ فى الديوانَين مجسَّدًا فى أسماء الأشجار والأزهار ، فالكَزوَرينا فى «همس الكَزوَرينا» يتجاوَبُ شكلُها المهوَّشُ فى الطبيعة مع الدَّور الذى ناطَه بها شاعرُنا، فهى هنا رمزٌ للوجود الشاحب الكئيب الواقف على حافة الفَناء كأنّها نائحةٌ أرسلَت شَعرَها فى مأتمٍ قاتم! وفى قصيدة «الإنسان» من الديوان الأوّل، يقول: «خلقَ اللهُ الإنسانَ وسَوّاهْ/ خلقَ العالَمَ ليَراهْ/ أطيارًا، أشجارًا...» إلى قوله: «وزهورًا زرقاءْ/ تتراقصُ فوقَ شُجَيراتِ الجَكَرَندا الجَرداءْ! وكؤوسًا حمراءْ/ تتمايلُ فوقَ شُجَيراتِ الرُّمّانِ الوَرِقاتْ».
هنا يَرسمُ منظرًا ربيعيًّا فريدًا لأزهار الجَكَرَندا التى تَظهرُ قبل ظُهور الأوراق، فتبدو فى تقابُلٍ غريبٍ مع أغصان شجيرتِها الجَرداء من الأوراق! ثمّ لا تلبث القصيدةُ أن تُفضيَ إلى قَولِه قُربَ الخِتام: «ويَرى الإنسانُ ويَشهدَ ما بَعدَ الأشياءْ».
وهى جُملةٌ تَشى بأنّ شاعرَنا ربّما يكونُ قد اختارَ هذا المَنظرَ البديع ليَلفِتَنا إلى اكتنازِه بمعنى التقابُل بين الأحوالِ فى الكيان الواحد، فالشُّجيرةُ تبدو ميّتة الأغصان، وحَيّةً فى الوقتِ ذاتِه، بل مُفعمةً بالحياةِ بفضل ما يجلِّلُها من أزهارٍ رائعةِ الجَمال!
لكنّ هذه المعرفة العِلميّة تتّخذ مَسارًا فريدًا فى قصيدة «ماتَ إقليدِس» من الديوان الأوّل. وذلك أنّها مبنيّةٌ على تقابُلٍ بين دلالات الهندسة المستوية التى توصّل إلى قوانينِها قديمًا إقليدِس، بكلّ ما تنطوى عليه من يقينٍ بسيطٍ مُطَمئِن، ودلالات هندسة (ريمان) Riemann ومنكوفسكى Minkowski التى تَخرِق اطمئنان الهندسة المستوية وتُلقى بنا فى عالَمٍ نسبيٍّ غير مطمئن.
هكذا يفاجئنا شاعرُنا فى سخريةٍ مريرةٍ ما بعد حَداثيّةٍ تبدأ من السطر الثاني: «كلُّ شيءٍ غيرِ ذكراكِ عبَثْ/ بل وحتى أنتِ يا حُبِّيَ قد صِرتِ عَبَثْ!ربّما قد كُنتِ يومًا عالَمِي/ ربّما؟ بل كُنتِ يومًا عالَمي/ عالَمَ الأشجارِ والتُّرعةِ والزَّهرِ النَّدِي...» إلى قوله: «عالَمًا من صُنعِ إقليدسَ حُبِّي!/ كان فيه المستقيمْ/ أقصرَ الأبعادِ بين النقطتَينْ» ثُمّ يقول فى نصف القصيدة الثاني: «غيرَ أنّا قد تحوَّلنا وسِرنا دون أن ندرى بعيدًا/ فى فَيافى منكوفِسكي/ وخَبَرناها مَتاهاتٍ غريبةْ/ هَندَسَتها يَدُ رايمَنْ/ وتراخَت يَدُ إقليدسَ، ضاعَت من يَدي/ مِثلما ضاعَت يَدُكْ!» إلى قوله: «مات إقليدسُ فى قلبى وقلبِكْ/ رحمةُ الله على عالَمِه الغضِّ البريءْ/ لم يَعُد أقصر ما بينى وبينكْ/ ابتساماتٌ ونظرة!»
وانتهاءً، كان هذا تطوافًا سريعًا بعالَم مُستجيرٍ الشِّعريّ، لا يوفّيه حَقَّه طَبعًا، وإن كنتُ أرجو أن يُلقى ضوءًا على مُنجزِه يَلفِت إليه الدراساتِ النقديّة فى قابل الأيّام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.