تحل في مارس 2025 مئوية الفنان عبد الهادي الجزار (1925-1966)، أحد أهم رواد الفن المصري الحديث، الذي حول حياة البسطاء إلى أساطير، صورتها لوحات أشبه بالأحلام، من خلال رؤية غرائبية جمعت بين السيريالية والميتافيزيقية والتعبيرية. كما يحتل المرتبة الثانية عربيا من حيث أسعار لوحاته في المزادات العالمية، بعد محمود سعيد. ورغم حياته القصيرة إلا أنه ترك رصيدا من الأعمال، بعضها وثائق عبرت عن أحداث وطنية. وهو ما يستدعى التذكير، بالاستعداد لاحتفالية تليق بقيمته وأثره. ومن أجل ذلك حرصنا على تقديم تلك الدعوة إلى وزارة الثقافة قبل حلول المئوية بوقت كاف. ◄ مطلوب احتفالية تليق بالفنان على مدار العام المقبل ◄ أعماله عرضت في إيطاليا.. وسارتر أعجب بلوحاته ■ لوحته تحضير الأرواح ■ أبو السباع من أعمال الفنان بيعت مؤخرا لوحة «ودن من طين وودن من عجين» للفنان عبد الهادى الجزار بمبلغ 584 ألف جنيه استرلينى. خلال مزاد بصالة كريستيز العالمية. وهى لوحة شهيرة لكن بقى مكانها مجهولا طوال أربعة عقود، حتى تبين أنها فى واشنطن، حيث اشتراها الزوجان الأمريكيان «جورج» و«جانا لوادو» بثمن زهيد فى الثمانينيات، خلال عملهما ضمن برنامج المعونة الأمريكيةبالقاهرة. وكان الفنان قد رسمها عام 51 وعمره 26 سنة. وهى ليست الوحيدة للفنان التى بيعت بثمن كبير فى مزاد عالمى، ولا العمل الوحيد الذى اختفى ثم عُثر عليه. ■ الفنان عبد الهادي الجزار ■ لوحته مفتاح الزمن ◄ استعادة تردد اسم الفنان خلال السنوات الماضية فى عدة مناسبات، منها العثور على لوحته «فنارات البحر الأحمر» قبل عامين، التى شوهدت بالصدفة معلقة فى مقهى بحى شبرا، وتبين أنها من ممتلكات الدولة. وكانت معلقة بمكتب وزير الثقافة بحى جاردن سيتي مطلع السبعينيات، قبل أن تؤول بالخطأ إلى المقاول المكلف بهدم المبنى، وتوضع فى مخازن شركته بوصفها روبابيكيا، حتى علقها نجله لاحقا فى مقهاه. ■ اللوحة التحضيرية حفر قناة السويس لعبد الهادي الجزار ■ من أعمال الجزار وكان الفنان قد رسمها عام 64 خلال رحلته إلى البحر الأحمر، وتقدم بها لنيل جائزة الدولة التشجيعية عام 65، ضمن عدد من أعماله، ومنها أيضا «إنسان السد» وهى الأخرى مفقودة، بعد إعارتها لجهة حكومية، ولم يستدل على مكانها حتى الآن. ■ المجنون الأخضر من أشهر أعمال الفنان لكن اسم الفنان لا يتردد فقط فى مناسبات الضياع والإهمال والاستعادة، ولكن أيضا مع عرض وبيع لوحاته فى صالات المزادات الفنية العالمية الكبرى، التى احتل فيها المرتبة الثانية عربيا بعد محمود سعيد. ومنها بيع عمل تحضيرى للوحته «حفر قناة السويس» فى مارس 2014 بمبلغ مليون و23 ألف دولار فى مزاد كريستيز فى دبى. كما بيعت لوحة تحضيرية للوحته الشهيرة «دنيا المحبة»، ولوحة «صندوق الدنيا»، ولوحة «رجلان فى ملابس الفضاء»، وغيرها بأسعار كبيرة. ■ شواف الطالع من أعمال الحقبة الشعبية ◄ السر يكتسب «الجزار» قيمته الفنية من مجمل أعماله التى حددها «الكتالوج المسبب» الذى صدر مؤخرا ب620 عملا، وهو الثانى لفنان مصرى بعد كتالوج محمود سعيد. وأشرف على إعداده وطباعته فى باريس الناقدة «فاليرى هيس» والدكتور حسام رشوان بالتعاون مع مؤسسة الجزار. وحصر أعماله، بحيث تتوقف فى المستقبل أى محاولات لتزييف أعمال جديدة ونسبها له. ■ غرائبية مستمدة من الحياة الشعبية ورغم تنوع أعمال الفنان لكن يرى الكثير من النقاد استثنائية حقبته الشعبية، التى استمد سحرية رؤيته فيها من عيشه فى الأحياء الشعبية، حيث وُلد فى حى القبارى بالإسكندرية، قبل أن ينتقل مع أسرته صبيا إلى حى السيدة زينب فى القاهرة. وبقى أثر الإسكندرية واضحا فى أعماله، ومخيلته. ■ غلاف أحد أجزاء الكتالوج المسبب للجزار ويظهر ذلك فى بعض ملابس الصيادين، وعمال الميناء، وكذلك فى لوحة «أبو أحمد الجبار»، التى تشير إلى الفتوة السكندرى الذى كان يلقب باسم «أبو أحمد». وقد عاصر الجزار الفصل الأخير من ذلك العالم. وبعد انتقاله إلى القاهرة، انهمك فى رسم مظاهر الحياة، وعوالم الموالد والمجاذيب والباعة وحلقات السيرك، ومظاهر الخرافة الفلكلورية الشعبية. ■ فرح زليخة من الحقبة الشعبية ويرجع الفضل فى ذلك إلى أستاذه فى مدرسة الحلمية الثانوية الفنان «حسين يوسف أمين»، الذى احتضن مجموعة من تلاميذه فى مدرستى الحلمية وفاروق الأول، ووجه أعينهم نحو الموضوعات المصرية، وأهمية العثور على أسلوب مصرى خاص. وكان ضمن المجموعة بالإضافة للجزار الفنانون حامد ندا وسمير رافع، وباقى أعضاء جماعة الفن المعاصر التى أسسها الفنان من تلاميذه، وبرع من خلالها الجزار فى التقاط الروح الشعبية بأبعاد أسطورية. ■ لوحة اثنان في ملابس الفضاء ◄ اقرأ أيضًا | أصل الحكاية| «ماعز رمسيس».. تحفة فضية من عصر المجد المصري ◄ الفن المعاصر تألق الجزار مبكرا، من خلال المعارض التى شارك فيها مع جماعة الفن المعاصر. وفى ذلك الوقت كانت تتنازع ثلاثة اتجاهات فنية رئيسية، أولها انحاز للكلاسيكية والتأثيرية والواقعية على الطريقة الغربية، ومثلته جمعية محبى الفنون الجميلة، التى أسسها أقطاب النظام الملكى، وناسبت ذوق الأمراء والطبقات الحاكمة، الذى بدا وكأنه قد توقف عند أواخر القرن التاسع عشر. والثانى تمثل فى محاولات تمصير سابقة قام بها بعض الفنانين من خريجى الفنون الجميلة ومعهد المعلمين كراغب عياد وحبيب حورجى. ■ لوحة الجوع التي حبس الفنان بسببها أما التيار الثالث فكان تغريبيا حداثيا، بلغ أوجه مع جماعتى «المحاولين» ثم «الفن والحرية». والأخيرة تبنت السيريالية على الطريقة الفرنسية، وشاركت ضمن معارض وفعاليات الحركة العالمية، وتواصلت مع أقطابها. وكان الجزار محظوظا لأنه عايش ذلك الحراك، وعلى صداه بلور مع رفاقه وأستاذهم حركة جديدة، مثلتها جماعة «الفن المعاصر»، التى استهدفت تقديم فن مصرى الروح والأسلوب، يواكب المدارس العالمية الحديثة، وهو ما جسدته أعمال الجزار. ■ لوحة المولد جمعت شخصية الجزار خليطا من المكونات، حيث كان ابنا لأسرة متوسطة لأب أزهرى، وعاش فى السيدة زينب ذلك الحى الشعبى، مع نزعة تصوفية، وقيامه بتجويد القرآن بصوت جميل، وفى الوقت نفسه مارس الرسم ودرس الموسيقى وعزفها وكتب الأشعار، والخواطر والتأملات الفلسفية والفكرية حول الفن والدين، والعلم والحدس. وكانت الأوضاع المحيطة به ممتلئة بالتناقضات، حيث عايش فترة غليان ونضالات الاستقلال فى الثلاثينيات والأربعينيات، وأجواء الحرب العالمية الثانية، وأوضاع التفاوت الطبقى، وفعاليات النهضة الثقافية والفنية والحراك الفكرى، وصراع الهويات، والانفتاح الاجتماعى والتحديث مقابل دعاوى التشدد. ■ لوحة السلام للفنان وكان حى السيدة زينب مسرحا جمع تلك التناقضات، من جوامع آل البيت والأولياء إلى الحوض المرصود، مقر تجديد رخص البغاء، ومن الموالد بطقوسها الصوفية، وحلقاتها الاحتفالية، إلى لصوصها ومحتاليها وشحاذيها. وكأن الحياة كانت تقدم له وجبة عامرة بكل شيء. وكان من الموهبة بحيث استطاع هضمها، والتقط اللب، وقدمه دون إدانة ولا أحكام، بل بتعاطف وتسامٍ، ما منحها الخلود. ■ لوحة دنيا المحبة للفنان ◄ مسيرة حافلة في عام 1948 عرض «الجزار» لوحته «الجوع» ويسميها البعض «الكورس الشعبى» أو «الطعام» ضمن معرض لجماعة الفن المعاصر، وضمت مجموعة من البائسين، وتحت أقدامهم أطباق خاوية، وكتب تحتها «رعاياك يا مولاى» فألقى القبض عليه وعلى أستاذه حسين يوسف أمين، ومكثا بالحبس أسبوعين حتى تمكن الفنانان محمود سعيد ومحمد ناجى من إخراجهما. لكن احتجزت اللوحة، وبعناد قام الفنان بإعادة رسمها مرة أخرى. وفيما بعد تمكن من استرجاع اللوحة الأولى بعد دفع مبلغ لأحد الشرطيين، فصارت لديه لوحتان. آلت إحداهما فيما بعد لوزارة الثقافة، والأخرى لرجل أعمال شهير محب للجزار، ويقتنى العديد من أعماله. ■ لوحة عاشق من الجن التحق «الجزار» أولا بكلية الطب بناء على رغبة والده، وبعد شهور قام بالتحويل لكلية الفنون الجميلة، ولا شك أنه كان قرارا صعبا فى ذلك الوقت. وأرجع السبب فى ذلك إلى طرفة، وهى أنه لم يستسغ تخيل لافتة عيادته فى المستقبل تحمل الجزار والطبيب معا. ولكن بالطبع كان الفنان ورغم حداثة سنه، قد قطع شوطا فى عالم الفن، واتضح الطريق أمامه، وعرف أنه صاحب بصمة خاصة فى عالم الفن. وهى الخصوصية التى تعرف عليها الفنان «حسين بيكار» عندما كان يدرس للطلبة الجدد بالكلية، حيث وجد الجزار يرسم بطريقة مختلفة عن المتعارف عليه، فقام بتوجيهه إلى الطريقة الصحيحة أكاديميا، وكان يفاجأ بأنه يعود لطريقته الخاصة، ويحقق نتائج ممتازة، فتركه يفعل ما يريد. ■ لوحة من وحي فنارات البحر الاحمر التي تم العثور عليها قبل عامين بدأت مسيرة الجزار الفنية بمرحلة القواقع والإنسان البدائى، التى عكست شغفه بمعرفة أصل الحياة، والإنسان فى عصور ما قبل التاريخ بفطريتها. ثم سرعان ما دخل الحقبة الشعبية التى كان متشبعا بها. ومن أعمالها لوحاته ذات الخلخال، ومفتاح الزمن، وآكل الحيات، ودنيا المحبة وغيرها. قبل أن ينتقل إلى مرحلة التجريد والآلة والفضاء، بعد زياراته المتكررة لإيطاليا ودراسته بها، ومشاركته ممثلا لمصر فى بينالى فينيسيا الدولى أعوام 1952، 1956، 1960، كما كانت أعمال الجزار ما لفت نظر الفيلسوف «جان بول سارتر» خلال زيارته لمصر مع سيمون دى بوفوار عام 1967، عندما شاهدها ضمن معروضات متحف الفن الحديث. لكن كان الفنان قد رحل قبل عام. ■ لوحة ودن من طين وودن من عجين للجزار وبقى أن نؤكد على ثقتنا بأن الدولة ممثلة فى وزارة الثقافة، وكذلك نقابة التشكيليين، وكافة الجهات المعنية سيقومون بعمل احتفالية تليق بالفنان، وأن تستمر على مدار العام، من خلال عدد من الفعاليات والمعارض والندوات، والفنان يستحق ذلك وأكثر.