بمناسبة افتتاح سد أسوان عام 1902، تمت دعوة المهندس المكلف ببنائه، السير «جون آير» -الفنان البريطانى «لورانس تاديما»، لزيارة مصر لأول مرة. وكان قد رسم الحياة فى مصر القديمة فى عدة لوحات شهيرة، يرجع بعضها إلى أربعين عاما مضت. ووجد الفنان الذى كان قد بلغ السادسة والستين نفسه وجها لوجه مع المشاهد التى حلم بها، ورسمها طوال عقود. ومكث بمصر ستة أسابيع، أعد خلالها للوحة جديدة لأجل مضيفه، والتى حضر الملك «إدوارد السابع» بنفسه إلى مرسم الفنان فى لندن، ليرى تقدم العمل بها. وهى واحدة من مئات الأعمال الفنية عبر التاريخ التى اهتمت بمصر القديمة، ولكل منها حكاية. ■ أمنحوتب الثالث وتي لوينفريد برونتون كان «لورانس تاديما»، قد وقع فى عشق مصر القديمة من خلال الآثار المصرية فى متاحف بلاده. وبدأ منذ ستينيات القرن التاسع عشر، برسم عدد من اللوحات النابضة بالحياة، التى تصور الحياة فى مصر الفرعونية كما تخيلها، على خلفية الآثار، وحظيت بالشعبية. ومن أشهرها «موت بكر الفرعون» التى رسمها عام 1859، ثم أعاد رسمها بعد عرض أوبرا عايدة ل«جوزيبى فيردي» واشتعال الهوس بمصر القديمة. كما رسم لوحة «مصرى فى المدخل» عام 1865. ■ يوسف المشرف على خزائن فرعون للورانس تاديما أما لوحته «يوسف المشرف على خزائن فرعون»، فاعتمد فى خلفيتها على قطع أثرية حقيقة لتصوير التفاصيل. واستعان بصورة شعر مستعار من إحدى مقابر سيدات طيبة، لرسم شعر يوسف. ونقل الرسم فى الخلفية من مقبرة «نيب آمون» بالمتحف البريطاني، والخرطوش على العرش، لتحتمس الثانى». كما رسم لوحات مثل «الأرملة المصرية» و«لاعبو الشطرنج المصرى»، و«مصرى عند المدخل» وغيرها. ■ أمنحوتب الثالث وتي لوينفريد برونتون ◄ العثور على موسى وقع اختيار مضيفه على موضوع «العثور على موسى» ليرسمه «تاديما» مستوحى من سفر الخروج، الإصحاح الثاني. ورسمه الفنان بطابع احتفالي. ووفقا ل«تشارلز سى بومبو» فى كتابه «حقائق وأوهام للفضوليين» فقد صور الفنان ابنة مضيفه، كابنة للفرعون، بملامحها غير المصرية. أما تاجها فمنسوخ من نموذج ملكى مصرى فى متحف «لايدن». استغرقت اللوحة نحو عامين بعد عودته إلى لندن، ما جعل زوجته تتندر بأن الطفل كبر، ولم يعد بحاجة إلى حمله. ■ وفاة بكر الفرعون للورانس تاديما وقد منحه الملك «إدوارد السابع» وسام الاستحقاق بعد مشاهدته للوحة فى مرسم الفنان. وكان «تاديما» ثالث فنان يحصل عليه. وعرضت اللوحة فى الأكاديمية الملكية عام 1905، لكن كانت الأذواق داخلها قد تغيرت، وصارت الواقعية الفرنسية مفضلة على الموضوعات التاريخية. وانتقد البعض اللوحة، بسبب نعومتها، وعدم احتوائها على مظاهر للقسوة الفرعونية المفترضة أو الهمجية التى اعتاد بعض الفنانين إدخالها فى لوحات الشرق. واشترى المهندس «آير» اللوحة بمبلغ 5250 جنيها إسترلينيا، بالإضافة لنفقات استضافة الفنان، لكن أسرته باعتها فى مزاد عام 1935، ولم تحقق سوى 820 جنيها، بسبب التغير الحاد فى الأذواق وصعود الأعمال الحداثية. ولحسن الحظ حظيت اللوحة بالتقدير لاحقا، وبيعت عام 2010 بمبلغ 35 مليون دولار فى قاعة مزادات «سوثبي». ■ فتاة مصرية للفنان إدوين لونج ◄ استشراق كان الهوس بمصر الفرعونية قد دخل مرحلة جديدة منذ القرن الثامن عشر مع حركة الاستشراق. وانفتح أمام فنانى أوروبا باب سحرى على عالم مصر الغرائبي. الفنان الاسكتلندى «ديفيد روبرتس» على سبيل المثال حضر إلى مصر عام 1838، وقضى بها أحد عشر شهرا، وسافر عبر النيل، ورسم داخل المواقع الأثرية، وحول رسومه إلى مطبوعات حجرية بعد عودته إلى لندن، وصدرت فى عدة سلاسل، وتعتبر مرجعا لاتسامها بالدقة. كذلك رسم الفنان الإنجليزى «إدوين لونج» العديد من اللوحات للحياة فى مصر الفرعونية بأسلوب خيالي، وحسي. وهو الآخر رسم «العثور على موسى» بطريقته. وعلى العموم ظهرت موضوعات الكتاب المقدس التى تدور أحداثها فى مصر كقصتى يوسف وموسى، ورحلة العائلة المقدسة فى عدد من الأعمال. كما رسم الأيرلندى «مثنيال هون الأصغر» لوحات من مصر منها «أبو الهول فى الظل وهرم خفرع» عام 1892 خلال زيارته إلى مصر، ولوحة زيتية بعنوان أبو الهول، وغيرها. ■ مقطع من لوحة للفنان الإنجليزي إدوين لونجستين لونج أما الفنانة «وينفريد برونتون» من جنوب إفريقيا، وزوجة عالم المصريات «جى برونتون»، فحققت شهرتها من رسم الفراعنة، استنادا إلى المومياوات والتماثيل. وعرضت أعمالها فى العشرينيات، بعد زيارتها لمصر مع زوجها، والعمل فى الحفائر الأثرية. وظلت أعمالها موضع تقدير لتقديمها صورا حية للفراعنة، قبل ظهور البرامج الحاسوبية التى أصبحت تقدم هذا النوع من الصور. وقد جذبت أهرامات مصر رئيس وزراء بريطانيا الشهير «وينستون تشرشل» الذي كان كان كاتبا وفنانا، ورسمها فى عدة لوحات خلال زيارته لها فى العشرينيات بصفته وزير المستعمرات. ■ فتاة مصرية للفنان إدوين لونج ◄ اقرأ أيضًا | أصل الحكاية| «معبد دندور» قصة إنقاذ وتكريم حضارة من ضفاف النيل إلى نيويورك ◄ أعمال حداثية لم تتوقف مصر القديمة عن إلهام الفنانين الحداثيين، ومنهم الإنجليزى «ديفيد هوكني» الذى رسم لوحتين عن مصر خلال دراسته، مستوحيين من قصائد شاعر الإسكندرية اليونانى «قسطنطين كفافيس»، تضمنتا أبوالهول فى مشهد ضبابي، و«رأس فرعوني ضمن موكب غامض». وفيما بعد زار مصر عام 1963 بتكليف من صحيفة صانداى تايمز، وقضى بها شهرا، ورسم العديد من اللوحات. وقامت الجريدة بالإعداد لعدد خاص، ليتضمن لوحاته من مصر، لكن اغتيال الرئيس الأمريكى «جون كينيدى» حال دون تنفيذ العدد، فقام بعرضها فى معرض خاص، وباع أغلبها بأسعار رخيصة. ومنها لوحة «منظر من فوق فندق النيل» التى باعها بمبلغ 50 جنيها إسترلينيا، ثم بيعت بمبلغ 426 ألف دولار عام 2002. كما بيعت لوحته «الهرم الأكبر مع رأس مكسور من طيبة»، عام 2013 بمبلغ 3.5 مليون جنيه إسترلينى فى مزاد بدار كرستيز. وقد عاد «هوكني» إلى مصر عام 1978 ورسم منها لوحات أخرى. وكان مخططا أن تجمع اللوحات من الرحلتين لتعرض فى القاهرة تحت عنوان «رحلات مصرية» لكن المعرض تعطل بسبب هجمات 11 سبتمبر، قبل أن يقام عام 2002 فى قصر الفنون بالقاهرة، ولكن تحت تأثير الهجمات والرد الأمريكي، وألغيت رحلة الفنان، وكان مقررا أن يزور مصر لمدة أسبوعين. ■ معبد أبو سنبل للفنان ديفيد روبرتس ◄ شغف قديم الشغف برسم مصر الفرعونية قديم، ويرجع إلى القرن السابع قبل الميلاد، ضمن اهتمام اليونانيين بكل ما هو مصري، ما ظهر تأثيره على سبيل المثال فى تماثيل «كوروس» البشرية فى وضع الوقوف مع تقدم الساق اليسرى، والتصاق الذراعين بالجسم، فضلا عن تقديسهم لبعض الآلهة المصرية، وإعادة تصويرها فى نقوش وتماثيل، كما فى معبد إيزيس فى «ديلوس» وغيرها. أما الرومان، فأبهرتهم الحضارة المصرية وفنونها منذ عام 58 قبل الميلاد، وخلال الفترة الانقسامية التى تنازع فيها «أوكتافيوس» و«مارك أنطوني» على السلطة. ورغم شيطنة «أوكتافيوس» لكل ما تعلق بمصر، نكاية فى غريمه، وعلاقته بكليوباترا، إلا أن الفنون المصرية اجتاحت روما، حتى أنه تم بناء هرم «سيستيوس» ما بين عامى 18، 12 ق.م وكذلك ظهر أبو الهول مجنحا على عملة رومانية شرقية فى عهد «أكتافيوس» نفسه، والذى صار اسمه «أغسطس». وفي العصور الوسطى، انتشرت صور مصر القديمة فى الكتب والمخطوطات. وظهر مفتاح عنخ ضمن بعض الرسوم الدينية. واستمر الأمر مع مشارف عصر النهضة، كما فى كتاب «جيوفانى بيكاتشيو» «نساء حكيمات ونبيلات» وأورد فيه إيزيس بوصفها ملكة وإلهة مصرية مع منمنمة لها. وتصاعد الأمر بعد إعادة قراءة كتابات «هيرودوت»، و«أميانوس مارسيلينوس». وكتب عالم عصر النهضة «ليون باتيستا ألبيرتي» فى القرن 15 عن الهيروغليفية المصرية، وأنها يمكن أن تكون لغة عالمية للمستقبل، كما شاعت الأساطير حول مصر لدى مثقفى ذلك العصر. ■ مقطع من لوحة للفنان إدوين لونجستين لونج وكانت هناك محاولات لفك رموز الكتابة الهيروغليفية من قبل اليسوعى الألمانى «إثناسيوس كيرشر» فى القرن 17. وهو ما أشعل اهتمام الفنانين بمصر القديمة. ووفقا لدراسة بعنوان «مصر القديمة فى عصر النهضة الإيطالي» ل«كوران بريان» -جامعة برنستون 1997 فإن عددا من الفنانين المهمين مثل «رفاييل» و«جوليو رومانو» قد عكفوا على دراسة الخصائص البصرية للفن المصرى القديم، وأن البلاط البابوى ل«ليو العاشر» (1513-1521) وهو ابن «لورينزو دى ميدتشي» الشهير، قد ضم مجموعة من عشاق مصر، ومنهم «بيريو فاليريانو». ووصلت نزعة «التمصر» ذروتها خلال ثلاثينيات القرن السادس عشر، وأبرز أمثلتها الصفحة المصرية من كتاب القداس. كما شاعت الزخارف المصرية فى اللوحات والجداريات. وواصل الأمر التصاعد خلال القرن 17 وظهرت مصر الفرعونية كمسرح لعديد من موضوعات الكتاب المقدس كما فى أعمال «نيكولا بوسان». وبالطبع فمن المستحيل حصر كل الفنانين الذين رسموا مصر القديمة، لكن بشكل عام تراوح الأمر بين التوثيق، والخيال الرومانسي، وتباين وفق المدارس والاتجاهات. كما اتسم بعضها بالتناقض بين الانبهار، ومشاعر الدونية أو التعالى والعنصرية، بالإضافة لتأثير المعتقدات، وخصوصا مرويات الكتاب المقدس حول القصص الدينية التى دارت فى مصر. لكنها فى النهاية لم تخل من شغف.