الهجرة تطلق فيلم «حلقة وصل» في إطار المبادرة الرئاسية «اتكلم عربي»    أكثر من 170 ألف فدان.. توريد 634 طن قمح لشون و صوامع سوهاج    محافظة الجيزة: قطع المياه عن منطقة منشية البكاري 6 ساعات    ماكرون يؤكد سعيه لتجنب تصاعد العنف بين لبنان وإسرائيل    متحدثة الأمم المتحدة للشئون الإنسانية: الموقف بغزة ما زال كارثيًا ومرعبا    بوكيتينو: لا يحتاج بالمر إثبات أي شيء أمام مانشستر سيتي    آينتراخت يتأخر بهدف أمام أوجسبورج في الشوط الأول    الأهلي يفوز على وفاق عين التوتة ببطولة كأس الكؤوس الإفريقية لليد    ماهو الذباب الصحراوي؟.. وبماذا حذرت خبراء الأرصاد الجوية للمواطنين    أخبار سوهاج اليوم.. سائق ميكروباص يمزق جسد طالب    الصور الأولى من حفل زفاف عبد الرحمن محمد فؤاد    مهرجان كان السينمائي الدولي يكشف عن ال«بوستر» الرسمي لدورته ال77    أحمد صيام ناعيا صلاح السعدني: شخصية عظيمة رفضت التغييرات التي طرأت على الفن وتنحى جانبا    عمارة : مدارس التعليم الفني مسؤولة عن تأهيل الخريج بجدارة لسوق العمل    لا يقتصر على السيدات.. عرض أزياء مميز ل «التلي» برعاية القومي للمرأة| صور    مطار مرسى علم الدولي يستقبل 149 رحلة تقل 13 ألف سائح من دول أوروبا    أخبار الأهلي : حقيقة مفاوضات الأهلي للتعاقد مع لاعب البنك فى الصيف    11 جامعة مصرية تشارك في المؤتمر العاشر للبحوث الطلابية بكلية تمريض القناة    وزير الاتصالات يشهد ختام فعاليات البطولة الدولية للبرمجيات بمحافظة الأقصر    الهنود يبدءون التصويت خلال أكبر انتخابات في العالم    إخماد حريق بمخزن خردة بالبدرشين دون إصابات    ضبط لص الدراجات النارية في الفيوم    ولاية ألمانية تلغي دعوة القنصل الإيراني إلى حفل بسبب الهجوم على إسرائيل    تسجيل أول سيارة بالشهر العقاري المتنقل في سوق بني سويف    وزيرا خارجية مصر وجنوب أفريقيا يترأسان أعمال الدورة العاشرة للجنة المشتركة للتعاون بين البلدين    التنسيق الحضاري ينهي أعمال المرحلة الخامسة من مشروع حكاية شارع بمناطق مصر الجديدة ومدينة نصر    50 دعاء في يوم الجمعة.. متى تكون الساعة المستجابة    دعاء يوم الجمعة قبل الغروب.. أفضل أيام الأسبوع وأكثرها خير وبركة    وزير الصحة يتفقد المركز الإفريقي لصحة المرأة ويوجه بتنفيذ تغييرات حفاظًا على التصميم الأثري للمبنى    محافظ الإسكندرية يدعو ضيوف مؤتمر الصحة لزيارة المعالم السياحية    عمل الحواوشي باللحمة في البيت بنفس نكهة وطعم حواوشي المحلات.. وصفة بسيطة وسهلة    مؤتمر أرتيتا: لم يتحدث أحد عن تدوير اللاعبين بعد برايتون.. وسيكون لديك مشكلة إذا تريد حافز    إسلام الكتاتني: الإخوان واجهت الدولة في ثورة يونيو بتفكير مؤسسي وليس فرديًا    حماة الوطن يهنئ أهالي أسيوط ب العيد القومي للمحافظة    محاكمة عامل يتاجر في النقد الأجنبي بعابدين.. الأحد    متحف مفتوح بقلب القاهرة التاريخية| شارع الأشراف «بقيع مصر» مسار جديد لجذب محبى «آل البيت»    إعادة مشروع السياحة التدريبية بالمركز الأفريقي لصحة المرأة    بالإنفوجراف.. 29 معلومة عن امتحانات الثانوية العامة 2024    «التحالف الوطني»: 74 قاطرة محملة بغذاء ومشروبات وملابس لأشقائنا في غزة    جامعة القاهرة تحتل المرتبة 38 عالميًا لأول مرة فى تخصص إدارة المكتبات والمعلومات    "مصريين بلا حدود" تنظم حوارا مجتمعيا لمكافحة التمييز وتعزيز المساواة    وفاة رئيس أرسنال السابق    الكنيسة الأرثوذكسية تحيي ذكرى نياحة الأنبا إيساك    نصبت الموازين ونشرت الدواوين.. خطيب المسجد الحرام: عبادة الله حق واجب    انطلاق 10 قوافل دعوية.. وعلماء الأوقاف يؤكدون: الصدق طريق الفائزين    القاهرة الإخبارية: تخبط في حكومة نتنياهو بعد الرد الإسرائيلي على إيران    العمدة أهلاوي قديم.. الخطيب يحضر جنازة الفنان صلاح السعدني (صورة)    خالد جلال ناعيا صلاح السعدني: حفر اسمه في تاريخ الفن المصري    "التعليم": مشروع رأس المال الدائم يؤهل الطلاب كرواد أعمال في المستقبل    استشهاد شاب فلسطينى وإصابة 2 بالرصاص خلال عدوان الاحتلال المستمر على مخيم نور شمس شمال الضفة    4 أبراج ما بتعرفش الفشل في الشغل.. الحمل جريء وطموح والقوس مغامر    طريقة تحضير بخاخ الجيوب الأنفية في المنزل    استشهاد شاب فلسطيني وإصابة اثنين بالرصاص خلال عدوان الاحتلال المستمر على مخيم "نور شمس" شمال الضفة    ضبط 14799 مخالفة مرورية متنوعة خلال 24 ساعة    اقتصادية قناة السويس تشارك ب "مؤتمر التعاون والتبادل بين مصر والصين (تشيجيانج)"    تعرف على موعد إجازة شم النسيم 2024 وعدد الإجازات المتبقية للمدارس في إبريل ومايو    ألونسو: مواجهة ريال مدريد وبايرن ميونخ ستكون مثيرة    دعاء السفر كتابة: اللّهُمّ إِنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ولع بملابس قديمة معينة
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 21 - 05 - 2022

عاشت فى منتصف القرن الثامن عشر، فى مقاطعة ماساشيستوس، سيدة محترمة أرملة، أم لثلاثة أطفال. ليس لاسمها أهمية خاصة: لذلك سأسمح لنفسى بتسميتها مسز ويلوباي- اسم له وقع محترم مثلها. توفى عنها زوجها بعد ست سنوات زواج، فكرّست نفسها لأبنائها منذ ذلك الحين. نشأ الصغار الثلاثة بشكل يُكافئ تضحيتها ويُرضى آمالها العظيمة. يُدعى الابن البكر برنارد، اسم ابيه، وابنتان أخريان يفصل بينهما نحو ثلاثة أعوام. كان الجمال من سمات العائلة، ولم يكن الثلاثى الصغير ليترك نصيبه منه. كان للولد بشرة فاتحة وردية، وكانت قامته الرياضية دليلا دامغا، فى ذلك الحين كما الآن، على الدم الإنجليزى الأصيل- كان شابا صريحا وودودا، ابنا مطيعا، وأخا كريما وصديقا شهما. مع ذلك لم يكن ذكيا. بدا أن شقيقتيه هما من حظتا بالنصيب الأكبر من ذكاء العائلة.
كان مستر ويلوباى الراحل قارئا كبيرا لشكسبير، وكان حبه هذا، حينذاك، ينم عن ذائقة أكثر حرية مما ينم عنه الآن_ فى مجتمع يتطلب المزيد من الشجاعة لرعاية الدراما حتى ولو سرا.. فأراد أن يسجل إعجابه بالشاعر العظيم باختيار اسميّ ابنتيه من مسرحياته المفضلة. فأسمى ابنته الكبرى بالاسم الرومانسى فيولا، وأسمى الصغرى اسما أكثر جدية، بِرديتا، كما أسمى صغيرة أخرى ولدت بينهما برديتا أيضًا لكنها توفت بعد أسابيع قليلة.
حين أتم برنارد ويلوباى ستة عشر عامًا، استجمعت أمه شجاعتها واستعدت لتنفيذ وصية أبيه الأخيرة. كان أبوه قد توسل إليها تقريبا أن يُرسل ابنه، فى السن المناسبة، إلى إنجلترا، لاستكمال تعليمه فى جامعة أوكسفورد، التى درس هو نفسه فيها. فكرت مسز ويلوباى أن ابنها لا نظير له فى نصفيّ الكرة الأرضية، لكنها، بالطاعة المتأصّلة لزوجة، حبستْ دموعها وأعدت لابنها حقائبه وملابسه الريفية البسيطة، وأرسلت به إلى ما وراء البحار.
التحق برنارد بكلية أبيه، وقضى خمس سنوات فى أنجلترا بلا إنجاز كبير حقا، وإنما بقدر كبير من المسرات، وفوق مستوى الشبهات. بعد أن أنهى دراسته، سافر إلى فرنسا. وفى عامه الثالث والعشرين، أبحر عائدا إلى وطنه، متوقعا أن يجد نيو أنجلاند المسكينة (كانت نيو إنجلاند حينها صغيرة للغاية) مكانا لا يُطاق العيش فيه. لكنه وجد تغييرا فى الوطن، وكذلك فى آرائه. راقه تماما العيش فى بيت أمه، ووجد أختيه قد صارتا شابتين جميلتين، بكل مزايا وإمكانات الشابات فى بريطانيا، على بعض صراحة مهذبة محلية المنشأ، وحرية، وإن لم تكن بإمكانات حقيقية، فهى على الأقل ميزة تُحسَب. فطمأن والدته، على انفراد، أن اختيه على قدم المساواة مع أفضل الشابات فى بريطانيا؛ ما جعل مسز ويلوباي، المسكينة بطبعها، تحث الشابتين على رفع رأسيهما أكثر.
كان هذا رأى برنارد، وكان كذلك بعشرة أضعاف، رأى مستر آرثر لويد. السيد المحترم الذى أُعجِّل بإدخاله فى القصة، رفيق برنارد فى الدراسة، شاب من عائلة ذات سمعة جيدة، بشخصية مهذبة وتِركة لا بأس بها، يفكر فى استثمار ما تبقى منها فى التجارة فى نيو إنجلاند. كان هو وبرنارد صديقين مقربين؛ كانا قد عبرا المحيط معا، لذلك لم يبطئ الأمريكى فى دعوة صديقه إلى بيت أمه، حيث ترك الشاب المحترم انطباعا جيدا بقدر ما تلقى، وبقدر ما ألمحتُ له توًا.
كانت الأختان فى ذلك الوقت زهرتين فى أوج تفتحهما، تتألق كل منهما، بطريقتها الخاصة بالطبع، بذاك الذكاء الطبيعي. كانتا مختلفتين تمامًا فى المظهر والجوهر. فيولا، الأكبر__ فى الثانية والعشرين الآن__ طويلة وشقراء، بعينين رماديتين هادئتين وشعر كستنائي؛ شبه باهت للغاية لفيولا كوميديا شكسبير ، التى أتخيلها (إن جاز لى ذلك) بشعر داكن، ونحيلة. مخلوق هوائي، مفعم بأرق وألطف المشاعر. فى حين لم تكن مِس ويلوباي، ببشرتها الشفافة، وذراعيها الرقيقين، وطولها الملوكي، وتحدثها البطيء، من محبى المغامرات. لم تكن لترتدى البنطال الرجالى أبدا، ربما كان ذلك لامتلائها قليلا أيضًا. أما برديتا، فبدا أنها استبدلت الحزن الرقيق لسميتها بشىء ما أكثر انسجاما مع مظهرها وجوهرها. بشعر داكن، قصيرة القامة، نشيطة، عينان بنيتان داكنتان وحيويتان. ظلت منذ صغرها مخلوقا مبتسما ومرحا، لا تسمح أبدًا بتركك تنتظر إجابتها على ما تقوله لها، كعادة أختها الحسناء (التى تفعل ذلك وهى تحملق فيك بعينيها الرمادتين الباردتين إلى حد ما)، بل تقدم لك عدة اختيارات كإجابة على أول جملة فى اقتراحك، قبل أن تنهيه حتى.
كانت الشابتان سعيدتين للغاية بعودة أخيهما، ووجدتا نفسيهما قادرتين تماما على التعامل مع صديقه بقدر جيد من النوايا الطيبة. كان من بين الشباب من أصدقاءهما وجيرانهما، ورد جناين المستعمرة، عدد من الشباب المغرمين، واثنين أو ثلاثة ممن يتمتعون بسمعة الفرسان الساحرين. لكن فنونهم المحلية، شباب المستعمرة الصادق هؤلاء، وبطولاتهم الصاخبة بشكل ما، انطمست تمامًا تحت وسامة وأناقة مستر آرثر لويد، ولباقة مجاملاته، ومعلوماته الغزيرة. لم يكن مثاليًا فى الحقيقة، لكنه كان شابا صادقا، وحازما، وذكيا وغنيا بالجنيهات الاسترلينية، ويتمتع بصحته وبآماله الممكنة، وعاصمته الصغيرة المفعمة بعواطف لم يستثمرها أحد. كان سيدا محترما، وسيما، درس وسافر، يتحدث الفرنسية ويعزف على القيثارة ويتلو أشعارا بصوت عال من ذائقة رفيعة. عشرات الأسباب لتبدأ المنافسة بين الأختين فورا على اختيار شريك الحياة، فى نطاق خيال المرأة المصمم بشكل خاص للتعامل مع التعقيدات الصغيرة والغامضة لمجتمع مهذب.
كان حديث مستر لويد يخبر شابات نيوإنجلاند بالكثير للغاية عن حياة أصحاب الصيحة الأحدث فى العواصم الأوروبية، أكبر مما تخيل هو نفسه. فكان من الممتع الجلوس والاستماع له هو وبرنارد يتحدثان عن الأشخاص الجيدين والأشياء الجيدة التى رآها معًا. كانوا يجتمعون كلهم حول النار بعد احتساء الشاي، فى البهو المكسو بالخشب__ لا يعنيهم كثيرا كونهم مشهد ريفى رائع أو أى شىء آخر، بل ليس أكثر من الاقتصادية، وأسلوب الإدخار فى السندات والمفروشات__ حين يبدأ الشابان فى تذكير أحدهما الآخر، عبر السجادة، بهذه المغامرة أو تلك. كانت فيولا وبرديتا تنصتان جيدا لتعرفا أى مغامرة بالتحديد، وأين حدثت، ومن كان هناك، وماذا كانت الشابات هناك يرتدين؛ لكنه، فى ذلك الزمن، لم يكن متوقعا من الشابات المحترمات إقحام أنفسهن فى المحادثة برغبتهن الخاصة، أو بطرح أسئلة كثيرة، لذلك اعتادت المسكينتان الجلوس بارتباك خلف فضول أمهما الفاتر__ أو المكتوم.
لم يستغرق آرثر لويد وقتا طويلا ليدرك أنهما الاثنتين رائعتان، لكنه،استغرق وقتا طويلا حقا ليتشبع بسحرهما. أدرك بحس ما داخلى قوي__ عاطفة ما من طبيعة مَرِحة للغاية لتُعتبر محرمة__ أن قدَره أن يتزوج بواحدة منهما، لكنه لم يمكنه الاختيار، وفى هذا الموقف الاختيار لا بد منه حتما، وإذ لم يكن متهورا للغاية ليتخذ قرارا بالقرعة أو لينخدع باللذة السماوية للوقوع فى الحب، قرر أن يأخذ الأمور ببساطة ويترك هذا الشأن لقلبه. فى هذه الأثناء، كان فى موقع محبب للغاية. أبدت مسز ويلوباى لا مبالاة كريمة تجاه نواياه، بعيدة تماما عن إهمال تصرفات ابنتيها وعن الممارسات البغيضة لدفعه إلى الإلتزام، التى رآها كثيرا، كشاب جيد لديه تركة، من السيدات الموقرات فى أراضيه الأصلية. أما برنارد، فلم يكن يرغب سوى فى أن يعتبر صديقه أختيه كأختين له هو الآخر، وأما الاختان المسكينتان، فمع أن كل واحدة منهما ظلت تتمنى سرا أن تحظى هى باهتمام مستر آرثر لويد، إلا أنهما حافظتا على مسافة محترمة للغاية وعلى سلوكهما المهذب العاقل.
مع ذلك، كانتا، بينهما وبين إحداهما الأخرى، فى حرب ما. كانتا صديقتين جيدتين، ستُغرس بذورة الغيرة فى قلب واحدة منهما وستستغرق أيامًا كثيرة لتطرح ثمارها. لكنهما شعرتا أن البذور قد غُرِست بالفعل يوم أن دخل مستر لويد البيت. قررت كل منهما أنها، فى حال تم تجاهلها، فستحتمل حزنها فى صمت، ولا أحد سيفوقها حكمة؛ إذ بقدر الحب يكون الكبرياء. مع ذلك، كانت كل منهما، رغم كل شىء، تصلى سرا أن يقع عليها هى الاختيار المجيد. تطلب كل هذا منهما قدرا كبيرا من الصبر، والتحكم فى النفس، والرصانة. إذ فى ذلك الزمان، لم يكن للفتاة المحترمة أن تتخذ أية خطوة نحو أى أحد أيا كان، وكذلك بالطبع لا تستجيب لأية خطوة يتخذها أحد نحوها. كان المفترض أن تجلس ساكنة فى مقعدها بعينيها فى السجادة، تراقب أين سيقع منديل اليد الغامض. كان على المسكين آرثر لويد أن يشن غرامياته فى البهو المكسو بالخشب، على مرأى من مسز ويلوباي، وابنها، وشقيقة زوجته المستقبلية. لكن الشباب والحب مخادعان للغاية، لحد يسمح بمرور مئات الإشارات والإيماءات بين طرفين دون أن تلحظ ثلاثة أزواج من الأعين شيئا. كانت الأختان تتشاركان غرفة نوم واحدة، وكان على كل منهما أن تخضع لمراقبة مباشرة من الأخرى لساعات طويلة. لكن علم كل منهما بأنها مراقبة من الأخرى لم يُحدث أدنى اختلاف فى الغرف القليلة التى كانتا تتناوبان على التواجد فيها، أو فى مختلف المهام المنزلية التى تقومان بها فى العموم. كذلك لم تكن إحداهما لتجفل ولا ليطرف لها جفن تحت الشحناء الصامتة فى عينيّ أختها. كان التغيير الوحيد الواضح فى عاداتهما أن قل ما تقوله إحداهما للأخرى. كان من المستحيل أن تتحدثا عن مستر لويد، وكان من السخف التحدث عن أى شىء آخر. باتفاق ضمني، بدأت كل منهما تحديد أسلوبها الخاص فى التأنق، باستخدام وسائل الغنج الصغيرة تلك، الشرائط و الفيونكات والتنورات المطرزة، فى حدود الحشمة بلا شك. وباتفاق ضمنى أيضًا التزمتا بالأمانة فى هذه المسائل الحساسة. كانت فيولا تسأل أختها وهى تربط مجموعة شرائط أعلى صدرها وتستدير لاختها فى وقفتها أمام المرآة. «أهكذا أفضل؟»، فترفع برديتا بصرها وتنظر باهتمام وتجيبها «ظنى أن عليك لفه مرة أخرى»، وتضيف عيناها بجهامة شديدة «بأمانة!»، لذلك ظلتا طوال الوقت تخيطان وتطرزان حواف تنانيرهن، وتكويان أوشحتهما الموسلين، وتجلبان الكريمات والعطور ومستحضرات التجميل. مثل النساء فى بيت راعى ويكفيلد.
مرت ثلاثة أو أربعة أشهر، وعند منتصف الشتاء، شعرت فيولا أنه طالما ليس لدى برديتا شيئا لتتفاخر به أكثر مما لديها هي، فلا داعى للخوف من منافستها. فى حين كانت برديتا، الساحرة، تشعر أن سرها أكبر من توقعات أختها عشرة أضعاف.
ذات ظهيرة، جلست فيولا أمام مرآتها تسرح شعرها الطويل. كان الجو معتما، فأشعلت شمعتين فى كوتيهما على جانبى المرآة، واتجهت للنافذة لتسدل الستارة. كان مساء ديسمبرى رمادي، منظر أجرد وكئيب، والسماء ملبدة بغيوم محملة بالثلج. عند طرف الحديقة الطويلة التى تطل عليها نافذتها جدار به باب خلفى صغير، يؤدى إلى زقاق. كان مواربا، حسبما خيل لها فى عتمة بداية المساء، ويتحرك ببطء يمينا ويسارا، كأن أحدهم يؤرجحه من الزقاق بالخارج. لا بد أنها إحدى الخادمات. لكنها، وهى تسدل الستارة، رأت أختها تدخل منه إلى الحديقة وتسرع نحو البيت. فأسدلتْ الستارة ما عدا شق رفيع لتنظر منه. بدا، وبرديتا تقترب من البيت، أن فى يدها شيئا ما تقربه إلى عينيها. وحين وصلت إلى البيت، توقفت لدقيقة، ونظرت فيه باهتمام وقبّلته.
عادت المسكينة فيولا ببطء إلى مقعدها، وجلست أمام مرآتها، التى لو كانت نظرت فيها بموضوعية، لرأت ملامحها الجميلة وقد شوهتها الغيرة والحزن. بعد ذلك بقليل انفتح الباب من خلفها، وظهرت أختها، لاهثة، وخداها متوردان من الهواء البارد.
قالت برديتا «أوه، ظننتك مع أمنا».
كان عليهن الذهاب إلى حفل شاى، وفى تلك المناسبات، جرت العادة أن تساعد واحدة منهما الأم فى ارتداء ملابسها. تلكأت برديتا عند باب الحجرة دون أن تدخل.
«هيا، هيا»، قالت فيولا، «ما زال أمامنا أكثر من ساعة. بودى أن تسرحى لى شعرى قليلا». عرفت أن اختها تريد أن تنسحب، كان بإمكانها رؤية جميع تحركاتها فى المرآة. فأضافت «هيا، ساعدينى قليلا فى تسريح شعري، وسأذهب بعدها إلى ماما».
دخلت برديتا على مضض، وأمسكت بالفرشاة. نظرت لعينى أختها فى المرآة، فأسرعت يدها فى التسريح. سرحته ثلاث مرات قبل أن تحرك فيولا يدها اليمنى لتمسك بيد أختها اليسرى، وتنهض من جلستها.
«خاتم من هذا؟» صاحت بحقد وهى تجذب اليد نحو الضوء.
كان فى إصبع برديتا الوسطى خاتم ذهبى صغير لامع، مرصّع بأحجار ياقوت صغيرة. شعرت برديتا أنه لا داعى لإخفاء سرها بعد الآن، وأن عليها مواجهة الأمر بشجاعة، فقالت بفخر: «إنه خاتمي».
صاحت أختها، «من أعطاه لكِ؟»
قالت برديتا «مستر لويد، أعطاه لى فجأة».
صاحت فيولا بحنق «أوه، لا، لقد عرضه علىّ منذ شهر، ولم يكن فجأة».
«واستغرقتِ شهرا لقبوله؟» قالت برديتا وهى تنظر للخاتم الصغير، الذى لم يكن رائعا بشكل خاص حقا، لكنه كان أفضل ما أمكن لصائغ الإقليم صنعه.
أجابتها فيولا «لا ينبغى قبوله فى أقل من شهرين».
قالت برديتا «إنه ليس الخاتم، إنه ما يعنيه!»
صاحت فيولا «إن ما يعنيه أنك لست فتاة محترمة.. هل تعرف أمنا شيئا عن تصرفك هذا؟ هل يعرف برنارد؟»
قالت برديتا «لقد سعدت أمى ب»تصرفي» هذا، كما تدعينه. لقد طلب مستر لويد يدي، ووافقت ماما. أكنتِ تريدينه أن يتقدم لكِ أنتِ يا أختاه؟»
نظرت فيولا لاختها نظرة طويلة مليئة بالحقد والأسى. ثم أسقطت أهدابها على خديها الشاحبين وأشاحت بوجهها. شعرت برديتا أنه ليس مشهدا جميلا، لكنه خطأ أختها. استعادت الأخت الكبرى كبرياءها بسرعة، استدارت لاختها مجددا وقالت بأدب جم «أتمنى لك كل الخير، أتمنى لكِ كل السعادة، وحياة طويلة جدا».
ضحكت برديتا بسخرية وصاحت «هيا يا أختاه، لا تتحدثى بهذه النبرة، الأفضل أن تسبينى بصوت عال»، ثم أضافت، «لم يكن بإمكانه الزواج منا نحن الاثنتين».
كررت فيولا بآلية وهى تعاود الجلوس أمام مرآتها «أتمنى لكِ كل السعادة، وحياة طويلة للغاية، وأطفالا كثيرين».
كان فى وقع تلك الكلمات شيئا ما لم يرق لبرديتا ألبتة. لكنها قالت:
«هيا، ألا تعطِنى عاما واحدا فقط؟ قد يمكننى خلاله إنجاب ولدا صغيرا__ أو صغيرة واحدة على الأقل. وإن أعدتِ لى فرشاتك سأسرح لكِ شعرك».
«شكرا لك»، قالت فيولا. «الأفضل أن تذهبى إلى ماما. لا يجب أن تسرح شابةُ لديها خاطب شابةَ ليس لديها شىء».
«لاااا»، قالت برديتا بمرح، «إن لدى آرثر ليساعدني. أنتِ فى حاجة لمساعدتى أكثر مني».
لكن فيولا أشارت لها أن تبتعد، فتركتْ برديتا الغرفة. حين غادرت، انهارت المسكينة فيولا على ركبتيها أمام تسريحتها، دفنت رأسها بين ذراعيها، وأطلقت سيل الدموع. شعرت بعد هذا التنفيس عن حزنها بحال أفضل بكثير. وحين عادتْ أختها، أصرت على أن تساعدها فى ارتداء ملابسها، وعلى أن ترتدى أفضل أثوابها. وضعتْ لها، بموافقتها بالطبع، قليلا من الدانتيلا الخاصة بها، معلنة أنها ستتزوج الآن وأن عليها بذل قصارى جهدها لتبدو جديرة باختيار حبيبها. قامت بتلك المهام بصمت صارم، لكن، هكذا كانتا، عليهما القيام بالواجب كاعتذار وتكفير، لم تفعل أى شىء آخر أبدا.
الآن، صار لويد بين العائلة عريسا مقبولا، لم يبق سوى تحديد موعد الزفاف. تقرر أن يكون فى أبريل التالي، وفى الفترة الفاصلة جرت الاستعدادات للزواج بهمّة. من جانبه، انشغل لويد بترتيبات تجارته، وبإجراء المراسلات مع الوكالة التجارية المرتبط بها فى انجلترا. لذلك لم يكن زائرا متكررا فى منزل مسز ويلوباى كما اعتاد خلال أشهر حيرته فى الاختيار، وكانت معاناة المسكينة فيولا أقل مما تخوفت من رؤية الحبيبين معًا. كان تعامل لويد مع شقيقة زوجته بنية طيبة، إذ لم يدر بينهما أدنى قدر من العاطفيات، فلم يكن لديه أدنى شك من أنها تضمر له شيئا أكثر من احترامه الأخوى لها. كان على طبيعته تماما، إذ تعده الحياة بالخير بالفعل، أسريا واقتصاديا. كانت الغيوم الملبدة للثورة على مبعدة عشرين عاما فى الأفق وكان من السخف والجحود أن يفكر فى أن سعادته الزوجية قد تتخذ أى منحى تراجيديا. فى هذه الأثناء كان العمل فى منزل مسز ويلوباى يجرى على قدم وساق، هفهفة أقمشة الحرير وصليل المقصات والإبر. قررت مسز وبلوباى أنها ستجهز ابنتها بأفضل ثياب يمكنها شراءها، وأفضل أثاث يمكن صنعه. دعت جميع خياطات البلد، لتطبع بذوقهن الموحد دولاب برديتا. كانت فيولا فى تلك الأثناء فى موقف لا تحسد عليه بالطبع، إذ كانت الشابة المسكينة مولعة بالملابس، وصاحبة أفضل ذوق فى العالم، وكانت أختها تعرف ذلك جيدا. كانت فيولا طويلة، مليئة وذات منحنيات، خُلِقت لارتداء قماش الديباج الصلب وكتل الشرائط الثقيلة، كما يليق بزوجة رجل غني. لكنها جلست منعزلة، بذراعيها الجميلتين معقودتين ورأسها مائلا، فيما تتساءل الخياطات المحترمات المذكورات سالفا ويقلقن بخصوص الأقمشة، ويكتمن شكواهن من محدودية مصادرهن. وصلت ذات يوم، قطعة قماش جميلة من الحرير الأبيض المقصب بخيوط زرقاء سماوية وفضية، أرسلها العريس بنفسه - مع أنه لم يكن من الشائع فى ذلك الزمن أن يساهم الزوج المستقبلى فى جهاز عروسه. حارتْ برديتا تماما فى إيجاد تفصيلة تليق بروعة القماش.
قالت لفيولا بعينين عطوفتين «الأزرق لون عينيك أنتِ يا أختاه، أكثر منى أنا، من المؤسف أنها ليست لكِ. كنت ستعرفين ماذا تفعلين بها».
نهضت فيولا من جلستها ونظرت إلى القماش اللامع الرائع منبسطا على ظهر مقعد. رفعته بين يديها وتحسسته بعشق، كما رأت برديتا__ واستدارت نحو المرآة به. تركته يتدلى على قدميها، ورفعتْ طرفه العلوى إلى كتفها، وجمعته عند خصرها بذراعها الأبيض العارى حتى المرفق، مالت برأسها للخلف تنظر لصورتها فى المرآة، فسقطت خصلة من شعرها الكستنائى على الحرير الرائع. كانت صورة مذهلة. تحلقت النساء حولها يهمسن بإعجاب. «حقًا»، قالت فيولا بهدوء، «الأزرق لونى بالفعل». رأت برديتا أيضًا أن خيال أختها قد ثار بالفعل، وأنها ستعمل الآن على حل كل مشاكلهن الحريرية. وبالفعل تصرفت فيولا جيدا جدا، كما توقعت برديتا، المولعة نفسها بالقبعات النسائية.
مرت بين يدى فيولا الخبيرتين ياردات لا حصر لها من الحرير اللامع، والساتان، والموسلين، والقطيفة، والأربطة، دون أن تمر من بين شفتيها كلمة حقد واحدة. يعود الفضل لمهارتها أن كانت برديتا، حين جاء يوم الزفاف، محملة بجهاز عروس لم تنعم به أى عروس شابة رفرفت فرحا من قبل تحت البركة المقدسة لسماء نيوإنجلاند.
كان من المخطط أن يسافر العروسان إلى الخارج ليقضيا أولى أيام زواجهما فى المنزل الريفى لسيد إنجليزى محترم__ رجل ذو مكانة وصديق كريم للويد. أعزب؛ لذلك أبدى سروره بأن يترك لهما البيت لأسبوع ليمارسا غرامياتهما بحرية. بعد إتمام الطقوس فى الكنيسة__ أجراها قس إنجليزي__ هرعت مسز لويد الصغيرة إلى بيت أمها لتغيير ثوب زفافها وارتداء ملابس السفر. ساعدتها فيولا، فى الغرفة الصغيرة القديمة التى شهدتهما شقيقتين مقربتين. بعد ذلك أسرعت برديتا لتودع أمها، تاركة فيولا خلفها. جرى الوداع بسرعة، إذ كانت الجياد عند الباب وآرثر لا يطيق صبرا لينطلق. لكن فيولا لم تتبعها، فأسرعت برديتا إلى الغرفة، فتحت بابها فجأة. كانت فيولا، كعادتها، أمام المرآة، لكن منظرها جعل أختها تقف ساكنة، مذهولة. كانت قد ارتدت طرحة زفاف أختها وإكليلها، وعلقت حول عنقها عقد اللؤلؤ الثقيل الذى تلقته برديتا كهدية زفاف من زوجها. كانت برديتا قد ألقت جانبًا بتلك الأشياء فى استعجالها، على أن تستعيدها بعد بعودتها من الريف. وقفتْ فيولا أمام المرآة بمنظرها غير الطبيعي، تسدد نظرة طويلة إلى أعماقها، وتقرأ ما لا يعلمه إلا الرب من رؤى طائشة. ارتعبت برديتا. كانت صورة قبيحة لتنافسهما القديم يعود للحياة مجددا. تقدمت خطوة نحو أختها، كأنها ستشد الطرحة والإكليل. لكنها، حين لمحت عينيها فى المرآة، توقفتْ.
«وداعا يا فيولا»، قالت برديتا. «كان بإمكانك الإنتظار حتى أغادر البيت على الأقل». وغادرت بسرعة.
كان مستر آرثر قد اشترى فى بوسطن منزلا يُعدّ، بذائقة ذلك الزمن، آية فى الأناقة والراحة، سرعان ما بدأ فيه حياته مع زوجته الشابة. كان المنزل بعيدا عن منزل حماته بحوالى عشرين ميلا. وكانت تلك المسافة، فى ذلك العصر البدائى للطرق ووسائل الانتقال تعادل مائة ميل فى زمننا هذا، فلم تر مسز ويلوباى ابنتها خلال الإثنى عشر شهرا الأولى لزواجها سوى قليل جدا. وعانت بقدر ليس بقليل من فراقها؛ وزاد من معاناتها أن سقطت فيولا فى حالة نفسية سيئة للغاية، فلم تكن لتنهض أو لتبتهج مجددا إلا بتغيير الهواء والمحيط. لا شك الآن لدى القارئ فى السبب الحقيقى لكآبة الشابة. مع ذلك عزت مسز ويلوباى وصاحباتها الأمر إلى علة بدنية فحسب، ولم تشك للحظة أن العلاج المذكور سيعود عليها بالراحة. على ذلك عرضت مسز ويلوباي، نيابة عن فيولا، زيارة إلى أقارب لهم من ناحية الأب يعيشون فى نيويورك، كانوا قد ظلوا يشكُون لفترة طويلة من عدم رؤيتهم أقاربهم فى نيوإنجلاند كثيرا. وأُرسلت فيولا إلى هؤلاء الطيبين، مع الرفقة المناسبة بالطبع، ومكثت معهم لعدة أشهر. فى تلك الفترة، قرر أخوها برنارد، الذى كان قد بدأ ممارسة مهنة المحاماة، أن يتزوج. عادت فيولا لحضور الزفاف، بدا عليها الشفاء من آلام قلبها، بورود وزنابق واضحة على وجهها، وابتسامة فخورة على شفتيها. جاء آرثر لويد من بوسطن لحضور زفاف شقيق زوجته، لم تجئ زوجته نفسها معه إذ كانت ستنجب له وريثه خلال وقت قصير. كان قد مر عام تقريبا منذ أن رأته فيولا. وكانت سعيدة - دون أن تعرف لماذا تحديدا - أن برديتا قد ظلت فى البيت. بدا آرثر سعيدا، لكنه صار أكثر وقارا واتزانا مما كان عليه قبل الزواج. ما جعله يبدو فى عينيها «مثيرا»، مع أن الكلمة بمعناها الحديث لم تكن قد اختُرِعَت حينذاك، لكن الفكرة موجودة بكل تأكيد. كان فى الحقيقة مشغولا بحالة زوجته. لكنه، مع ذلك، لم يفته ملاحظة جمال فيولا وتألقها، وكيف فاق جمال وتألق العروس الصغيرة المسكينة. كانت النفقات المخصصة لملابس برديتا قد انتقلت الآن إلى أختها، فاستخدمتها الأخيرة، بالطبع، على نحو مذهل. فى الصباح التالى لحفل الزفاف، هيأ لويد سرجا مخصصا لركوب السيدات على ظهر حصان خادمه الذى جاء معه من بوسطن، وخرج مع الشابة الصغيرة لنزهة على ظهر الخيل. كان صباحا حماسيا مشرقا من شهر يناير، الأرض مكشوفة وصلبة، والخيل فى حالة جيدة - وفيولا، لا داعى للقول إنها بدت فاتنة فى قبعتها ذات الريش، ومعطف ركوب الخيل الأزرق الداكن بحواف من الفرو. ظلا يتنزهان طوال الصباح، ضلا طريقهما، واضطرا للتوقف لتناول الغداء فى أحد البيوت الريفية. كان مساء الشتاء المبكر يخيم بالفعل حين عادا إلى البيت. قابلتهما مسز ويلوباى بوجه واجم. وصل رسول من مسز لويد أثناء الظهيرة، لقد بدأت آلامها وتطلب من زوجها العودة فورا. حين فكر الشاب فى أنه قد ضيع عدة ساعات، وأنه لو كان قد أسرع فى الانطلاق لكان الآن مع زوجته بالفعل، تألم من صميم قلبه. وافق بالكاد أن يتناول عشاء سريعا، لكنه امتطى حصان الرسول وانطلق على الفور.
حين وصل إلى بيته عند منتصف الليل. كانت زوجته قد ولدت فتاة جميلة. قالت وهو يقترب من فراشها، «أوه، لماذا لم تكن معى؟»
فأجابها ببراءة «كنت بالخارج حين جاء الرسول. مع فيولا».
تأوهتْ بضعف وأدارت له ظهرها. لكنها تعافت سريعًا، ولمدة أسبوع ظل تحسنها متواصلا بلا انقطاع. مع ذلك، ونظرا لخلل ما فى التغذية أو التدفئة، كما قال الطبيب، بدأت حالتها تسوء بسرعة. كان لويد بائسا. سرعان ما اتضح أنها تلفظ أنفاسها الأخيرة. شعرت مسز لويد بدنو نهايتها وأعلنت عن تصالحها مع فكرة الموت. وفى الليلة الثالثة لإنتكاسها أخبرت زوجها أنها لن تستمر حتى الليل. صرفتْ خدمها، واستأذنت من أمها أن تغادر هى أيضًا - كانت مسز ويلوباى قد وصلت فى اليوم السابق.
أرقدت برديتا وليدتها إلى جانبها، ورقدت على جانبها لتقرب الطفلة من صدرها، وأمسكت يد زوجها. كان المصباح الليلى خلف ستائر الفراش الثقيلة، لكن الغرفة مضاءة بوهج أحمر لنار جذوع خشب كبيرة على الموقد.
«يبدو غريبا الموت بالقرب من نار كهذه»، قالت السيدة الشابة بضعف وهى تحاول الابتسام. «ليت لديّ القليل من هذه النار فى عروقي!» ثم أضافت وهى تنظر لابنتها «لكننى منحتها كلها لهذه الشعلة الصغيرة من الخلود». ثم نظرت لزوجها نظرة مطولة. كان آخر ما علق بقلبها نحوه شعورا بعدم الثقة. لم تكن قد تعافت بعد من صدمة إخباره لها أنه، أثناء ساعات ألمها، كان مع فيولا. كانت تثق فى زوجها بقدر ما تحبه تقريبا؛ لكنها الآن، وهى راحلة إلى الأبد، تشعر برعب بارد من أختها. شعرت فى أعماق روحها بأن فيولا لم تتوقف قط عن حسدها على حظها السعيد، وأن عاما من السعادة والهناء لم يمحو صورتها وهى ترتدى طرحة زفافها وتبتسم بانتصار. الآن وقد صار آرثر وحيدا، ما الذى قد لا تفعله فيولا؟ كانت جميلة، فاتنة، ماذا قد لا تستخدمه من فنون، ماذا قد لا تفعله لمواساة الرجل كسير القلب؟ نظرت مسز لويد لزوجها بصمت. صعُب عليها أن تشك فيه رغم كل شىء. كانت عيناه مليئتين بالدموع، ووجهه ملتوى بالبكاء، وقبضة يده دافئة وعاطفية. لشد ما بدا نبيلا، ورقيقا ومخلصا وصادقا! «لا»، فكرتْ برديتا، «إنه ليس لواحدة مثل فيولا. لن ينسانى أبدًا. ولا فيولا نفسها تعنى به، إنها لا تعنى سوى بالملابس والجواهر». نظرتْ ليديها البيضاوين اللتان غطاهما سخاءُ زوجها بالخواتم، ولكرانيش جلباب نومها. «إنها تريد خواتمى وملابسى أكثر مما تريد زوجي».
بدا أن التفكير فى أطماع أختها فى هذه اللحظة يُلقى بظل داكن بينها وبين ابنتها الصغيرة المسكينة. «آرثر»، قالت، «يجب أن تنزع خواتمي. لا يجب أن أُدفَن بها. يجب أن تكون لابنتى يوما ما__ خواتمى وأوشحتى وحريري. لقد طلبت أن يجلبوها لى كلها اليوم. إنها مجموعة ملابس رائعة - لا نظير لها فى الإقليم كله؛ يمكننى القول بلا غرور إننى قد اكتفيت منها الآن. سوف تكون تركة رائعة لابنتى حين تصير شابة. إن بها أشياء لا يجب أن يشتريها الرجل مرتين، وإن ضاعت فلن تجد مثلها مرة أخرى أبدا. لذلك ستحتفظ بها جيدا. لقد تركتُ بعض الأشياء لفيولا؛ حددتها لأمى بالفعل. أعطيتها الحرير ذا الخيوط الزرقاء والفضية؛ كان مقدّرا لها؛ ارتديته مرة واحدة فقط، وبدوت فيه هزيلة. لكن كل شىء آخر يجب حفظه بعناية للصغيرة. يسعدنى أنها ورثت عنى لون بشرتي، سيمكنها ارتداء ثيابي، لديها عيناى أيضًا. أنت تعرف أن الصيحات تتكرر كل عشرون عام. سيمكنها ارتداء ثيابى كما هي. ستبقى الثياب فى الحفظ والصون حتى تنمو الصغيرة لها. ملفوفة بالكافور وورق الورد، ومحتفِظة بألوانها فى الظلام العطِر. سيكون لها شعر أسود، سترتدى ثوبى الساتان القرنفلي. أتعدنى بهذا يا أرثر؟»
«أعدك بماذا يا أعز الناس؟»
«بأن تحتفظ بثياب زوجتك الصغيرة المسكينة».
«أتخافين أن أبيعها؟»
«لا، بل أخاف أن تُبلي. ستحرص أمى على لفها جيدا، وعليك أن تحتفظ بها فى مكان مقفل جيدا. أتعرف الخزانة الكبيرة فى العلية، ذات القفل الحديدى؟ إنها تسع كل شىء تقريبا. يمكنك الاحتفاظ بالثياب كلها فيها. ستقوم أمى ومدبرة المنزل بالأمر، وستعطيانك المفتاح. وعليك أن تحتفظ بالمفتاح فى مكتبك، وألا تعطيه لأى مخلوق سوى ابنتك. أتعدنى بهذا؟»
«أوه، نعم، أعدك»، قال لويد، مذهولا من إلحاح زوجته على هذه الفكرة.
«أتقسم؟» كررت برديتا.
«نعم، أقسم».
«حسناً- أنا أثق بك- أنا أثق بك»، قالت المسكينة وهى تنظر فى عينيه بعينين، لو كان يدرى شيئا عن مخاوفها الغامضة، لقرأ فيهما التوسل والإصرار.
تحمّل لويد مصابه بعقلانية ورجولة. بعد شهر من وفاة زوجته، أتيحت له الفرصة فى تجارته ليسافر إلى إنجلترا. فرحب بها لإزالة الكآبة عنه. غاب هناك حوالى عام، تاركا صغيرته فى رعاية جدتها. عند عودته أمرَ بفتح منزله مجددا، وأعلن عن نيته إبقاءه كما كان حين كانت زوجته على قيد الحياة. تنبأ الجميع بنيته الزواج مجددا، وكان هناك عشرات الشابات على الأقل اللائى لا يمكن إلقاء اللوم عليهن، أن لويد، بعد عودته بستة أشهر، لم يثبت صحة التنبؤات. ظلت الصغيرة خلال تلك الفترة فى رعاية مسز ويلوباي، التى أكدت له خطر تغيير ظروف الإقامة فى هذه السن الصغيرة على صحتها. لكنه فى النهاية أعلن أن قلبه يشتاق للصغيرة بشدة، وأنها يجب إحضارها إلى منزله. فأرسل عربته ومدبرة المنزل لإعادتها إلى بيتها. كانت مسز ويلوباى مرعوبة من أن تصاب الصغيرة بشىء فى الطريق، لذلك عرضت فيولا أن تصطحبها، على أن تعود فى اليوم التالي. وهكذا ذهبت فيولا إلى بوسطن مع ابنتة اختها الصغيرة، وقابلها مستر لويد عند باب المنزل، ممتنا بشدة لعطفها. لكنها بدلًا من العودة فى اليوم التالي، مكثتْ أسبوعا، وحين عادت إلى بيتها أخيرا، كان لتأخذ ملابسها. دون أن يعرف لا أرثر ولا الصغيرة شيئا عن عودتها، لأنها الصغيرة تصرخ وتبكى حين تتركها فيولا، وأرثر حين يرى حزنها يفقد صوابه، ويقسم أنها ستموت. موجز القول، إنه لا يوجد حل أفضل من أن تظل فيولا مع الصغيرة حتى تألف الوجوه الغريبة.
استغرق الأمر شهرين لتحقيق هذا الأمر؛ لم تغادر فيولا بيت زوج شقيقتها قبل مرور تلك الفترة. كانت مسز ويلوباى قد هزت رأسها لغياب ابنتها، معلنة أنه ليس من اللائق، وأن الناس يتحدثون. وأنها قد تسامحت فيه فقط لأن البيت يتمتع أثناء غياب فيولا بجو من السلام غير المعتاد. كان برنارد ويلوباى قد جلب زوجته لتعيش معهم فى البيت، وكان بينها وبين شقيقة زوجها عداوة مريرة. فيولا ليست ملاكا بالطبع، لكنها فى الحياة اليومية العادية فتاة لطيفة بما فيه الكفاية، وشجارها مع مسز برنارد ليس بلا استفزاز. لكنها كانت حادة فى شجارها بشكل مزعج للغاية، لم تكن تتشاجر مع غريمتها فحسب بل مع زوج المتابعين للشجارات المستمرة أيضا. لذلك كانت إقامتها فى بيت زوج شقيقتها رائعة لإبعادها عن ما ينفرها من البيت على الأقل، ورائعة عشرات الأضعاف لقربها من ولعها القديم. ثبتت ظنون مسز لويد صوابها إلى حد كبير. كانت فيولا مولعة فى البدء، وقد ظلت كذلك__ ولع من فرط حرارته سرى إلى أحاسيس مستر لويد الرقيقة. لم يكن لويد، كما ألمحتُ من قبل، محبا للوحدة، ليس من طبعه ممارسة ثباتا انفعاليا مثاليا. لم تمر عليه عدة أيام فى البيت مع شقيقة زوجته قبل أن يؤكد لنفسه إنها، بلغة ذلك الزمن، امرأة شيطانية لطيفة. ولا داعى للتساؤل ما إن كانت فيولا قد مارست تلك الفنون الباطنية التى كانت أختها تشك فيها أم لا. يكفى القول إنها استطاعت بكل السبل أن تبدو فى أبهى شكل. اعتادت أن تجلس كل صباح أمام المدفأة فى غرفة الطعام، بقطعة تطريز تعمل عليها، والصغيرة تلعب على السجادة عند قدميها بطرف ثوبها أو بكرات الصوف. كان صاحبنا ليعد أحمقا للغاية إن ظل غافلا عن التلميحات الدسمة فى هذه الصورة الساحرة. كان مغرما بالصغيرة بشدة، لا يكل من حملها بين ذراعيه ورفعها عاليا مرارا وتكرارا، ليجعلها تقهقه فرحا، وكان أحيانا كثيرة يغامر بما يفوق استعداد الصغيرة فتصرخ مستاءة، فكانت فيولا تضع تطريزها جانبًا وتمد يديها الجميلتين بابتسامة جادة للصغيرة تثير فى خيالها البكر كل فنون الأمومة. كان لويد يترك الطفلة، تتقابل أعينهما، تتلامس أيديهما، فتمحو فيولا دموع الصغيرة بمنديل ثلجى نظيف معلق بصدرها. كانت أناقتها تامة، ولا غبار ألبتة على تعاملها مع كرم ضيافة زوج شقيقتها. قد يجوز القول حتى إن فى تحفظها شىء ما صارم. كان لويد يشعر أنها فى البيت ومع ذلك لا يمكن الاقتراب منها. كانت بعد العشاء بنصف ساعة، عند بداية أمسيات الشتاء الطويلة، تُضيئ شمعتها، وتلقى على الشاب أرق تحية مساء، وتأوى إلى فراشها. لو كانت تلك فنون، فقد كانت فيولا فنانة عظيمة. مع ذلك كان أثرها رقيقا للغاية، وتدريجيا للغاية كما يقتضى العمل على خيال الأرمل الشاب بتصعيد هادئ ورقيق، وهكذا، كما يرى القارئ، مرت عدة أسابيع قبل أن تطمئن فيولا أن عودتها ستختتم مخططها. حين تأكدت من هذا أخلاقيا، حزمت حقائبها، وعادت إلى منزل أمها. انتظرت لثلاثة أيام، وفى الرابع، ظهر مستر لويد- خاطب رصين لكنه متحمس. سمعته فيولا بتواضع شديد، وقبلت عرضه بخجل بالغ. يصعب القول ما إن كانت مسز لويد قد غفرت لزوجها هذا أم لا، لكنها، إن كان شيئا قد هدأ من استياءها، فقد كان الزهد الاحتفالى الذى تم به الزواج. اشترطت فيولا على خاطبها شرطا صغيرا. سيتزوجا، بالتأكيد، لكن بخصوصية شديدة تصل إلى السرية تقريبًا- على أمل ربما، حسبما كان يقال بوقاحة حينذاك، ألا تسمع مسز لويد عن الأمر شيئا.
كان واضحا للعيان أنه زواج سعيد، نال كل طرف ما يريده - نال لويد «امرأة شيطانية لطيفة»، كما نالت فيولا - لكن ما تريده فيولا، كما لاحظ القارئ، ظل غامضا إلى حد كبير. كان يوجد بقعتان على سعادتهما بالفعل، لكن الوقت قد يمحوهما. خلال الثلاث أعوام الأولى من زواجها فشلت مسز لويد فى أن تصبح أما، ومن جانبه، لاقى زوجها خسائر مادية كبيرة، ما اضطره إلى التخفيض فى النفقات قليلا، واضطر فيولا للعيش فى مستوى أدنى مما عاشت فيه أختها. لكنها مع ذلك، كافحت لتبقى على صورتها غير القابلة للاهتزاز كسيدة أنيقة، مع ذلك يجب الاعتراف أن الأمر تطلب منها ممارسة مهارات أكثر مما تطلبه الراحة الاستقراطية الحقيقية. كانت قد تأكدت منذ وقت طويل أن أختها قد أوصت بحفظ مجموعة ملابسها الثمينة لابنتها، وأن الملابس ترقد لتذبل فى الظلام الدامس فى العلية المتربة. آلمتها فكرة أن تنتظر تلك الأنسجة الرائعة أوامر فتاة صغيرة تجلس على مقعد عال وتأكل خبزا ولبنا بملعقة خشبية. مع ذلك ظلت كياستها تمنعها من ذكر الأمر حتى مرت عدة أشهر. حينذاك، أخيرا، ذكرته لزوجها بتخوف. أليس من المؤسف تضييع كل هذه الأشياء الجميلة هدرا؟ هدرا بالطبع، ماذا عن بَهَتان الألوان، والعثة، والتغيير فى الصيحات. لكنه أجابها بالنفى القاطع فورا، فرأت أنه لا جدوى من المحاولة فى الوقت الراهن. مرت ستة أشهر، حاملة معها احتياجات جديدة ورفاهيات جديدة. باتت أفكار فيولا تحلق بوله حول تركة أختها. صعدت إلى العلية ونظرت إلى الخزانة التى ترقد فيها الملابس حبيسة. بدا على قفلها الحديدى تحدى جهم، ما أشعل رغباتها. أثار جمودُ الخزانة الموصدة سخطَها. كخادم عجوز كئيب وقذر يغلق فمه على سر عائلي. ثم المظهر المقتدر لكتلتها الضخمة، وصوت الامتلاء الثقيل حين خبطت فيولا جانبها بطرف نعلها الصغير، والذى جعل وجهها يحمرّ بشوق مكتوم. فصاحت، «هذا سخف، هذا لا يجوز، هذا لؤم»، وعزمت على شن هجوما جديدا على زوجها. فى اليوم التالي، بعد العشاء، وهو يشرب كأس نبيذ، بدأته. لكنه قاطعها على الفور وبصرامة شديدة.
«لآخر مرة يا فيولا»، قال، «هذا الأمر غير قابل للنقاش، سيسؤونى للغاية أن تعودى له مجددا».
«حسنا جدا»، قالت فيولا. «يسعدنى أن عرفت قيمتى عندك. ياللسماء!» صاحت، «يالسعادتي. يسعدنى أنك تضحى بى من أجل حب ماضي، وامتلئت عيناها بدموع غضب وإحباط.
لدى لويد رعب الرجل الطيب تجاه دموع المرأة، فحاول - أو بالأحرى تنازل - ليوضّح الأمر. «إنه ليس حب ماضي، عزيزتي، إنه وعد»، قال، «قسم أقسمته».
«قسم؟ أهى مسألة تستحق قسما حقا! ولمن؟ بودى أن أعرف».
«لبرديتا»، قال الشاب وهو يرفع بصره للحظة، لكنه أخفضه فورا.
«برديتا، أوه، برديتا» رددت فيولا وأجهشت فى البكاء. غار صدرها بنحيب عاصف، يشبه النحيب المكتوم لفترة طويلة لنوبة البكاء العنيفة التى انتباتها ليلة أن عرفت خبر خطبة أختها. كانت فى لحظات هدوءها تتمنى أن تكون قد تخلصت من الغيرة، لكن مزاجها، فى هذا الموقف خصوصا، اتخذ منحنى لا سبيل لوقفه. «وبأى حق، استمحيك عذرا»، صاحت، «هل ستتحكم برديتا فى مستقبلى؟ بأى حق تلزمك باللؤم والقسوة؟ أوه، أنا أعيش فى بيت محترم، وفى حال جيدة! ولى أن آخذ ما تركته برديتا! وماذا تركتْ؟ لم أدرك من قبل قط قلة ما تركته! لا شىء، لا شىء، لاشىء.
كان ذلك منطقًا ضعيفًا للغاية، لكنه محمل بعاطفة قوية جدا. أحاط لويد خصر زوجته بذراعيه وحاول تقبيلها، لكنها أبعدته عنها باحتقار بالغ. صاحبنا المسكين، أراد امرأة شيطانية لطيفة، وقد نالها! كان احتقارها لا يمكن غفرانه. سار مبتعدا بأذنيه تطنان - مغبش الرؤية ومشوشًا. وقف أمام مكتبه، الذى احتفظ فيه بالمفتاح المقدس بعد أن أداره بنفسه فى القفل ثلاث مرات. سار إليه وفتح الدرج السري، كان المفتاح فى ظرف صغير مختوم بشعاره الخاص المزخرف. تينيو، هكذا يقول الشعار - «على مسئوليتي». لكنه خجل من إعادته. فألقى به على الطاولة لزوجته.
«احتفِظ به!» صاحت. «لا أريده. أنا أكرهه!»
«لم يعد مسئوليتى الآن»، صاح زوجها، «ليسامحنى الرب!»
رفعت مسز لويد كتفيها غاضبة، واندفعت خارج الغرفة، فانسحب الشاب من باب آخر. بعد ذلك بعشره دقائق، عادت مسز لويد إلى الغرفة فوجدت الصغيرة ومربيتها هناك. المفتاح ليس على الطاولة. نظرت للطفلة الجالسة على مقعد وفى يدها الظرف. كانت قد فتحته بأصابعها الصغيرة. فأخذت مسز لويد المفتاح.
خرج أرثر لويد من غرفة مكتبه فى الساعة المحددة للعشاء. كان ذلك فى شهر يونيو، وكان العشاء يقدم فى ضوء النهار. وُضِع الطعام على المائدة، دون أن تظهر مسز لويد. عادتْ الخادمة التى أرسلتها مديرة المنزل لاستدعاء السيدة لتؤكد أن غرفتها خالية. كما أكدت مديرة المنزل أنها لم ترها منذ الغداء. كانتا فى الحقيقة قد لاحظتا دموعها، وافترضتا أنها حبست نفسها فى غرفتها، فلم تزعجاها. صاح زوجها باسمها فى أنحاء البيت، لا شىء. خطر له أخيرا أنه قد يجدها فى العلية. حمل هذا الخاطر معه شعورا غير مريح، فأمر الخدم أن يظلوا مكانهم، لا يريد شهودا على ما سيجده. وصل إلى أسفل السلم المؤدى إلى الطابق الأعلى ووقف ويده على الدرابزين، نطق اسم زوجته. بصوت مهزوز. ثم نادى مرة أخرى، بصوت أعلى وأكثر حزما. لم يكسر الصمت المطبق سوى الصدى الواهن لصوته يكرر نداءه تحت السقف العالي، لكنه شعر أنه مدفوعا بقوة لا تقاوم لصعود السلم. انفتح الباب على غرفة واسعة، مصطفة فيها عدة خزانات حشبية وفى نهايتها نافذة تطل على الغرب وتعلن عن آخر أشعة للشمس. أمام الخزانة، رأى الشاب، مذهولا مرعوبا، زوجته راكعة على ركبتيها على الأرض. عبَر المسافة بينهما فى لحظة، بلا تفكير. كان غطاء الخزانة مفتوحا، يكشف فى بطانته المعطرة، كنزه من أشياء ثمينة ومجوهرات، وكانت فيولا قد سقطت للخلف فى موضع ركوعها، بيد تستند على الأرض والأخرى على قلبها. رأى تصلب الموتِ فى أطرافها، وبدا على وجهها، فى ضوء شمس المغيب، الرعب من شىء ما أكبر من الموت. كانت شفتاها منفرجتان بتوسل يائس ومتألم، ووسط شحوب جبينها وخديها عشرات العلامات على الجروح البشعة التى أحدثتها يدا شبح ما منتقم.
اقرأ ايضا | « سِفْر الأحلام ».. بين التمرد والجدلية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.