سبق أن أشرت في كتابات ولقاءات عدة، إلي أن دوائر الامن المصري، تنقسم إلي نوعين؛ الدوائر القريبة، والدوائر البعيدة، ولكل منهما أبعاده، وأثره المباشر، وغير المباشر علي الفكر والقرار المصري، علي كافة الاتجاهات. يتحرك المفكر الاستراتيجي المصري، بين تلك الدوائر، بحذر، وحنكة، قبل اتخاذ أي قرارات مصيرية. تعتبر ليبيا والسودان من دوائر الامن القومي المصري القريبة، والمباشرة، حيث تمثل ليبيا الاتجاه الاستراتيجي الغربي، بحدود تمتد لطول 1200 كم تقريباً، بينما تمثل السودان الاتجاه الاستراتيجي الجنوبي. لم يحدث في تاريخ مصر، أن كان كلا الاتجاهين يمثلان اهتمام مصر بهذا الشكل، وما أعنيه هنا أنه لم يحدث أن كانت جميع الجبهات الاستراتيجية لمصر، مهددة عبر التاريخ، مثلما يحدث الان. فقد شهد الموقف، في ليبيا، توتراً كبيراً بعد سقوط الرئيس القذافي ونظامه، في 2011، بالتزامن مع أحداث "الربيع العربي"، إذ اندفعت كافة العناصر الإرهابية، من مختلف بقاع الارض، لتتخذ من ليبيا مستقراً لها، فاجتمع علي أراضها عناصر داعش الليبية، وعناصر داعش الفارين من العراق، وعناصر داعش الفارين من سوريا، إضافة إلي عناصر من جماعة بوكوحرام الإرهابية من نيجيريا، وأولئك العائدون من أفغانستان ولم يجدوا لأنفسهم مأوي، علاوة علي عناصر المليشيات المسلحة في الصحراء من مناطق مالي، مستغلين انعدام سيطرة الدولة علي حدودها، أو علي شئونها الداخلية، مما ممكنهم من الاستيلاء علي الكميات الضخمة من الأسلحة والذخيرة، التي كان القذافي قد جمعها أيام فترة حكمه الطويلة. وأصبحت ليبيا، منذ ذلك الحين، من أخطر مناطق تجمع العناصر الإرهابية في العالم، إن لم تكن أخطرها علي الاطلاق ... وأصبحت مناطق الهلال النفطي، في ليبيا، تحت سيطرة بعض هذه الجماعات، والبعض الاخر تحت سيطرة عدد من القبائل الليبية. وأمام ذلك الوضع الملتهب كان الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، هو الامل في القضاء علي كل هذه العناصر، والسيطرة علي الموقف، ونجح، بالفعل، في تطهير بنغازي، ومن بعدها درنة، التي استمرت في أيدي الدواعش لأكثر من 4 سنوات متواصلة، تمكنوا خلالهم من فرض أفكارهم الإرهابية المتطرفة علي مجريات الامور. ولم يتبق، للمشير حفتر، إلا أن يتقدم في اتجاه العاصمة طرابلس، الواقعة تحت سيطرة رئيس الوزراء فايز السراج، للقضاء علي آخر جيوب العناصر الإرهابية الموجودة بها. أما من ناحية الاتجاه الجنوبي، فإن ما مرت به السودان من أحداث، تحت حكم الرئيس عمر البشير، خلال الثلاثين عاما الماضية، وما شابها من اضطرابات سياسية وفساد السلطة، فضلاً عما صحبها من تدهور الظروف الاقتصادية، دفع الشعب السوداني لأن يثور، أخيراً، ويطيح بالرئيس البشير وأعوانه، وهو ما تتابعه مصر عن كثب، نظراً للعلاقات التاريخية التي تربط الشعبين، والمصالح المشتركة بين البلدين، والامتداد الطبيعي والجغرافي الذي يجمعهما. ومن هذا المنطلق، فقد دعا الرئيس عبد الفتاح السيسي، بصفته رئيساً للاتحاد الأفريقي، إلي عقد قمة تشاورية، لأول مرة، في القاهرة، تمكن خلالها من إقناع الزعماء الأفارقة المشاركين بمنح المجلس الانتقالي بالسودان مهلة ثلاثة أشهر، بدلاً من 15 يوماً، لتسليم السلطة إلي حكومة مدنية، مؤكداً دعم مصر الكامل لاستقرار السودان، وخيارات الشعب السوداني في صياغة مستقبل بلاده. كما قرر الرئيس السيسي، بصفته رئيس الاتحاد الأفريقي علي عقد اجتماع علي مستوي وزراء خارجية الدول الأفريقية، بعد شهر، لمتابعة تنفيذ القرارات التي اتخذتها القمة التشاورية. وعلي صعيد متصل، وأملاً في القضاء علي جميع العناصر الإرهابية في ليبيا، وعودة الأمن والسلام والاستقرار إليها، فقد ترأس الرئيس السيسي اجتماع قمة الترويكا، ولجنة ليبيا رفيعة المستوي بالاتحاد الأفريقي، حيث دعا المجتمع الدولي إلي تحمل مسؤولياته، مؤكداً ضرورة استئناف الحل السياسي، والعودة إلي المفاوضات السياسية، من خلال قنوات الاتصال، مع مختلف الأطراف السياسية الليبية. وتأتي أهمية ذلك الاجتماع، بعد فشل مجلس الأمن، التابع للأمم المتحدة، في الخروج بقرارات هامة تجاه ما يحدث في ليبيا، فكان تحرك الرئيس السيسي بصفته رئيساً للاتحاد الأفريقي، رسالة واضحة مفاداها أن الدول الأفريقية هي الأقرب إلي ليبيا، والأكثر حرصاً علي عودة الاستقرار إليها. ولذلك، فإنه من المنتظر، خلال الفترة القادمة، ومن خلال متابعة الاتحاد الأفريقي، أن يتم تحريك الأوضاع في كلا الاتجاهين؛ السوداني والليبي، وتري مصر ضرورة الحفاظ علي هدوء الأوضاع في السودان، حتي يتمكن الشعب السوداني من تقرير مصيره، دون أية تدخلات خارجية، خاصة من قطر، وإيران، وتركيا، التي ألغي لها المجلس العسكري السوداني الاتفاق الذي أبرمته مع البشير لإطلاق يدها في جزيرة سواكن السودانية، في البحر الأحمر، تحت زعم تطوير الآثار العثمانية الباقية الموجودة بالجزيرة. وعلي الجانب الليبي، ستستمر مصر في دعم الجهود السياسية لصالح الاستقرار في ليبيا، والعمل علي منع أي تدخلات أجنبية علي الأراضي الليبية، سواء من جانب تركيا أو قطر، كما تسعي مصر لأن يتم رفع الحظر عن تزويد الجيش الليبي بالأسلحة، حتي يتمكن من القضاء علي العناصر الإرهابية داخل ليبيا، التي تجد لها تمويلاً من الخارج، خاصة بعدما ضبطت السلطات الليبية، مؤخراً، سفينة تركية محملة بالأسلحة والذخائر في طريقها للجماعات الإرهابية في ليبيا. كما تنادي مصر بضرورة فك الودائع الليبية المجمدة في الخارج، حتي تستطيع ليبيا البدء في مشاريع إعادة الإعمار، وعودة الحياة المدنية الطبيعية إلي البلاد، وإعادة تشغيل المدارس، والمستشفيات، والمصالح الحكومية، لتستعيد الدولة الليبية كفاءتها، وتتمكن من تقديم خدماتها للمواطن الليبي، حتي تنتظم الحياة، وتستقر. إن مصر تنظر، بترقب، إلي الأوضاع في الاتجاهين الغربي والجنوبي، وتدعو لهذه الدول بالاستقرار، وتوفير حياه كريمة للشعبين الشقيقين، الليبي والسوداني، وفي نفس الوقت، فإن مصر لن تسمح بأي تهديد لأمنها القومي، ولن تقف قواتها المسلحة مكتوفة الأيدي، أبداً، أمام أي نية لتهديد الأمن القومي المصري، وتحتفظ لنفسها بحق التدخل، في أي وقت، لتحقيق أمن مصر القومي، تماماً مثلما أكد الرئيس السيسي، في مناسبات مختلفة.